الحق في الاسم وحرية المعتقد وإكراهات الحالة المدنية
على امتداد التاريخ، لم تطرح مسألة حق كل شخص في الاسم كمسألة قابلة للنقاش، إذ طالما عدت ضمن مسلمات الحقوق الذاتية والطبيعية للإنسان[1]، أما كل اعتداء أو حد منها فلم تكن مندرجة إلا ضمن الاستثناء أو العرف المحلي أو التوظيف والدعاية السياسية[2]. ولكن مع هذا فإن هذا الحق عرف التقنين في مرحلة لاحقة وذلك أساسا مع المجلة المدنية الألمانية لسنة 1896. ليتدعم مع السنوات ويندرج ضمن منظومة الحقوق والحريات تحديدا في جملة حقوق الهوية والحياة الخاصة. وفي البلاد التونسية لم يتم تنظيم أحكام الاسم في الفترة الاستعمارية إلا بشكل محتشم، لتحافظ بالتالي أحكامه على طابعها العرفي والاختياري، وهو ما سيتغير جذريا مع دولة الاستقلال التي سارعت لضبط كل عناصر ومقومات الحالة المدنية للسكان في إطار مسار كامل من الانتقال من “الرعية” إلى المواطنين. وفي هذا الصدد تم وضع القانون عدد3 لسنة 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية والذي ينص فصله الأول على أن من مشمولاته: الشروط التي بمقتضاها يتم التصريح بالولادات[3]. ومن ضمن هذه الشروط أو المسائل نجد الاسم الذي تم تنظيمه أساسا في الفصل السادس والعشرين من هذا القانون والذي وضع المبدأ العام، أما الاستثناء فنجده في الفصل الموالي والمتعلق بإسناد اسم للطفل مجهول الهوية.
في هذا المقال سنبحث عن تأثير الخلفية الدينية للشخص في علاقة بحقه في الاسم داخل المنظومة القانونية التونسية سواء على مستوى النصوص القانونية وكذلك ضمن فقه القضاء. وما نستشفه عموما من التجارب المقارنة ومن أحكام قانون 1957 والنصوص المكملة له، هو ارتباط مسألة الاسم بجملة من المقتضيات هي: الوجوبية والثبات والحق في الهوية. أما الوجوبية، أي ضرورة تمتع كل شخص باسم وفقا للضوابط القانونية ويكون اداة لتمييزه وتأكيد تمتعه بشخصية قانونية، فإنها لا تطرح إشكالا في علاقة بموضوعنا هنا، إذ لا يتعارض بداهة انتماء شخص لدين معين مع مقتضى ضرورة تمتعه باسم ما. ولكن الإشكال يطرح أساسا في علاقة مع المطلبين الآخرين أي الحق في الهوية من جهة والثبات أو كما يعرف بعدم قابلية الاسم للتغيير تطبيقا لمبدأ استقرار الحالة المدنية من جهة أخرى. وعليه فإننا نسعى هنا كذلك للتركيز على الدور الذي تلعبه المعطيات السابقة، وهذا ما سنتتبعه في علاقة بمسألتين: اختيار اسم المولود الجديد وتغيير الاسم تبعا لتغير دين حامله.
اختيار الاسم عند الولادة: من التقييد إلى الانفتاح
قد تبدو مسألة اختيار الاسم للوهلة الأولى بعيدة كل البعد على حرية المعتقد. ولكن يكفي الوقوف عندها قليلا لإدراك ترابطهما العضوي. إذ كثيرا ما يضع الأبوان في اعتبارهما لحظة اختيارهما لاسم الطفل، معطيات جمة: سوسيولوجية وثقافية ودينية بل وحتى إثنية. ذلك أن اسم الطفل سيكون في المستقبل بطاقة للتعريف بخلفيته الثقافية والدينية وجوازا للعبور والاندماج المجتمعي خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات متعددة الطوائف أو الأعراق[4].
بالعودة للتجربة التونسية، نجد أن قانون 1957، تبنى بشكل عام مبدأ حرية الأبوين في اختيار الاسم، اذ لم ينصص في الفصل 26 إلا على ضرورة حمل الطفل لاسم أو أسماء دون وضع شروط وتقييدات لذلك. يمكن تفسير هذه الإباحة أول مرة بعدة عوامل دون القدرة على الجزم بقطعية أحدها دون أخرى. فبداية، نجد أن المجتمع التونسي لحظة الاستقلال وفي تلك الفترة تحديدا لازال متعدد الطوائف والأعراق بشكل لافت وبالتالي فإن القانون راعى هذا التنوع وسعى إلى توطيده عبر دفع السكان على اختلافهم لمزيد الانخراط في سياق المواطنة وحثهم على الإقبال على تنظيم أحوالهم المدنية. ومن جهة أخرى، من الممكن أن طبيعة النص، وهو قانون أو مجلة الحالة المدنية كما يؤكد البعض، يفترض فيه حتما العمومية ولتشعب مسائله وكثرتها، يستحيل ضبط جملة تفاصيلها جميعا في قانون واحد. وإنما تم إرجاء المسألة لنصوص لاحق سواء كانت قوانين أو مناشير.
المهم هنا وبقطع النظر على تظافر الأسباب من عدمها، إلا أن السنوات القليلة الموالية، والتي شهدت هجرة جزء كبير من سكان البلاد التونسية سواء الأوربيين أو اليهود التوانسة، حملت توجها كبيرا للحد من حرية هذا الاختيار مع إصدار جملة من القوانين والأوامر، كان ظاهرها في الأول السعي لمنح بعض الأشخاص الحق في تغيير الاسم أو اللقب وذلك متى ما كان محلا للسخرية أو مثيرا للالتباس وذلك عبر القانون عدد 20 لسنة 1964 المؤرخ في 28 ماي 1964 والمتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير الاسم أو اللقب، وهو قانون يحيل لمعطى مهم هو تحول الاسم من مسألة شخصية ومحلية إلى مسألة “ذوق عام” يفترض فيها أن تتناغم مع المعايير الاجتماعية للمجتمع الحديث. وهو أمر أرادت الدولة التحكم فيه بشكل قبلي ودون نص صريح منذ سنة 1959 قياسا على الأحكام المنظمة للقب العائلي[5]، ليجسد بذلك هذا المسار ما يعتبره بعض الباحثين دورا جديدا للقانون اخرجه من مجرد كونه قواعد عامة مجردة وملزمة إلى ما ” يترجم الإرادة السياسية لإيديولوجيا مهيمنة و يعكس في الوقت نفسه القيم السائدة ويحمي مصالح من هم في السلطة”[6] .
غير أن التحديد الأهم من حرية اختيار الاسم والذي يهمنا هنا، تم مع المنشور عدد 85 المؤرخ في 12 ديسمبر 1965 الصادر عن كاتبي الدولة للعدل والداخلية والذي كرّس صراحة قاعدة مفادها أن يكون اسم الطفل عربيا عبر إقراره ” تحجير إسناد أسماء غير عربية للمواليد”. وهو أمر تم تأكيده بنفس عبارات التحجير بعد مضي حوالي خمسين سنة في منشور وزير الداخلية والموجه لضباط الحالة المدنية بتاريخ 5 أوت 2013.
هذا المنشور، عكس سعي الدولة الواضح لاستكمال ما عرف بالهندسة الاجتماعية للأسرة الحديثة، والتأكيد على أبرز ملامح هويتها الثقافية: العروبة والإسلام[7]. هذا الربط العضوي بين العروبة والإسلام، والمواطنة التونسية، مثل نوعا من الحد من حرية المعتقد، إذ أن الإسم كثيرا ما كان شكلا من أشكال الممارسة الدينية وإعلانا صريحا للانتماء لطائفة أو دين معين. وبالتالي فإن الحد من هذه الحرية واختزالها في وجوبية عروبة الإسم يحول دون قدرة أبوين من دين ذي خلفية غير عربية على ترسيم ابنهما بذلك الإسم، بل إن هذه الحجة تعتمد حتى في وجه أسماء عربية ولكنها غير إسلامية[8].
وفي مقابل هذا الحكم العام، وضعت الدولة استثناء لهذا المبدأ يتمثل في المنشور المشترك بين كتابة وزارتي العدل والداخلية بتاريخ 12 ديسمبر 1965 والذي ورد فيه: “تحرر الرسوم باللغة العربية إلا فيما يتعلق بالتونسيين الإسرائيليين والأجانب ممن لا يحملون اسما ولقبا عربيا فإن الألقاب تكتب زيادة عن العربية بالأحرف اللاتينية بإملاء ممن يهمه الأمر”. في هذا المنشور نجد أن الدولة حاولت تكريس نوع من التوازن بين الرغبة في التحكم بالهوية الثقافية لغالبية المواطنين المفترض أن يكونوا مسلمين في مقابل السعي للحفاظ على حد من الحرية فيما يتعلق بالمواطنين ذوي الخلفية اليهودية، نظرا لمدونة الأسماء المتداولة عندهم والتي لا تعود كثير منها لجذور عربية. ولكن هذا الاستثناء المبني على الخلفية الدينية يطرح إشكالين أساسيين.
يتمثل الأول، في أن هذا الاستثناء وإن ضمن حدا من الحرية إلا أنه محدود من حيث النطاق، إذ لا يشمل من التونسيين سوى المواطنين اليهود، دون غيرهم من أتباع الأديان الأخرى الذين يبدو أن الدولة لا تهتم أو لا تلاحظ وجودهم. وهو ما يفهم في سياق أن الدين لم يكن ينظر له من زاوية كونه حرية فردية تمارس على نطاق فردي ولكن هي ممارسة جماعية لا تتم إلا في سياق طائفة أو أقلية ما[9]، وهو ما لم يعرفه المجتمع التونسي إلا باستثناء المجموعة اليهودية. وقد يطرح السؤال هنا عن كيفية إثبات الانتماء للطائفة اليهودية، هل يكفي للتمتع بهذا الامتياز، أن يكون الفرد يهوديا مولودا لعائلة يهودية أم يشمل ذلك شخصا من أبوين مسلمين اختار اليهودية عن اقتناعه الخاص؟ قد لا نجد فقه قضاء منشور لمثل هذا النزاع، ولكن من باب البناء على فقه القضاء وخيارات المشرعين والإدارة القريبة[10]، يبدو أن الحق في التمتع بمثل هذا “الامتياز” قد لا يصب إلا لصالح الفئة الأولى. وهو ما يدفعنا للخوض في الإشكال الثاني.
وهذا الإشكال يتمثل في أن هذه الأحكام طابعا تمييزا بين التونسيين، وهو تمييز لا يعود لمعيار المواطنة بل الدين، ذلك أنه يمنح بعض المواطنين حيزا أكبر من الحرية في اختيار اسم الطفل المولود متى ما كان والداه يهوديان من حيث المولد بينما يحرم منه أشخاص آخرون من أديان أخرى لا يعترف المشرع والقانون التونسي بها كالبهائية مثلا. وبالتالي فإننا أمام تمظهر واضح لما يمكن للخلفية الدينية أن تؤثر به على حقوق المواطنين. وبعبارات أخرى نحن أمام شكل من أشكال التمييز بين المواطنين على أساس الخلفية الدينية لا الانتماء للوطن[11].
وما يخلص من هذا المنشور وملحقاته، تناقضه الصارخ مع المنظومة القانونية وعلى رأسها الدستور وكذلك منظومة حقوق الإنسان. أما على المستوى التشريعي فنجده في تضاد مع دستور 2014- الذي ستتم تحت ضوئه تغيير هذه الأحكام- في فصوله: الفصل السادس والمتعلق بضمان حرية المعتقد والضمير والفصل 47 المتعلق بضمان حقوق الأطفال دون تمييز. وكذلك ضمن التوجه العام الذي طبع مجلة حماية الطفل في فصلها الأول والرامي إلى تنشئة الطفل ضمن مناخ يوازن بين الخصوصية الثقافية المميزة له من جهة والانفتاح والحرية والتعددية من جهة أخرى. أما على المستوى الحقوقي فإن الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل[12]، كرست الحق في هوية الطفل بشكل صريح في فصلها الثامن وضرورة عدم التمييز بين الأطفال على اختلاف معتقداتهم وهو ما كان تتويجا لمسار من التنصيصات والإعلانات الدولية الكثيرة المتعلقة بحقوق الطفل وحمايته وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الطفل لسنة 1959 الذي أكد في المبدأ الثالث على حق الطفل في الإسم بشكل صريح وذلك بعد تأكيده ضمن المبدأ الأول على “يجب أن يتمتع الطفل بجميع الحقوق المقررة في هذا الإعلان. ولكل طفل بلا استثناء أن يتمتع بهذه الحقوق دون أي تفريق أو تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب أو أي وضع آخر يكون له أو لأسرته”.
هذه الترسانة من النصوص الدولية، أثرت بشكل واضح في جملة من تشاريع عدة دول، إذ ألغى المشرع الفرنسي سنة 1993، قانون 11 جرمنيال للسنة الحادية عشرة ( 1 أفريل 1803) المتعلق بالحالة المدنية والذي كان ينص على التقييد من حرية الوالدين في اختيار الأسماء والاقتصار على الأسماء الفرنسية المعروفة، ليتم تعويضه بقانون 8 جانفي 1993 والذي كرس صراحة حرية الأبوين في إختيار إسم الطفل[13].
ضمن هذا التوجه الحقوقي العالمي، وإثر مناخ الحرية الذي فرض نفسه على الجميع منذ سنة 2011، لم يعد منشور سنة 1965 قابلا للتطبيق من دون أن يتعرض للمعارضة، وهي معارضة ظهرت في البداية بشكل عفوي، إذ اختار متقاضون التشبث بحقهم، طلبا لترسيم أبنائهم رغم رفض ضباط الحالة المدنية ذلك. صحيح أن الرفض في هذه الحالات لم يتعلق بأسماء ذات دلالة دينية بل بأسماء غير عربية وأمازيغية تحديدا[14]. إلا أن هذه الحوادث التي جدت بشكل متواتر أكدت عدم جدوى وفاعلية هذا المنشور مع تغيرات المجتمع السلوكية والثقافية، وهو ما أكده باحثون معاصرون لتلك الفترة أجمعوا على نهاية صلاحية هذا المنشور داخليا وعالميا وبالتالي ضرورة التوجه لاعتماد سياسة جديدة في هذه المادة تحد من السلطة المطلقة لضباط الحالة المدنية وتكرس التعددية وتتخذ من مصلحة الطفل المثلى الهدف الوحيد المنشود من وراء تنظيم هذه المادة[15].
وهو ما تم فعلا، ليتلو ذلك إثر بعض السنوات، إصدار منشور جديد قطع كليا مع هذا التوجه، هو منشور وزير الشؤون المحلية عدد13 المؤرخ في 15 جويلية 2020 والذي ألغى كلا من منشور 1965 ومنشور 5 اوت 2013، وأقر صراحة حرية الأبوين في الاختيار. هذا المنشور إضافة للتجديد الواضح والجلي وإنهائه لمسار طويل من التمييز بين المواطنين، فإنه يثير الاهتمام أيضا في تجاوزه مجرد المنع أو رفع المنع القانوني التقني الصرف، إلى تنصيصه الصريح على دوافع ومرجعيات هذا القرار الحقوقية إذ جاء فيه مثلا “قد تضمنت هذه التوجيهات (المناشير والقوانين السابقة) بعض التحجيرات أصبحت تعتبر اليوم نوعا من التقييد لحرية اختيار الوالدين لأسماء المواليد الجدد… ونظرا لتطور الإطار القانوني للحريات في تونس خاصة بعد صدور دستور 27 جانفي 2014 … تقرر إنهاء العمل بالمنشور المذكور الذي لم يعد يتلاءم مع ما تعيشه بلادنا اليوم من مناخ حرية ومسؤولية”.
مثل هذا التنصيص الصريح على عدم ملائمة نص قانوني ما لواقع المجتمع والمواطنين من جهة وعلى تطور واقع الحريات في تونس هو أمر نادر ضمن النصوص الإدارية من هذا الصنف، ولكنه بالغ الأثر في هذه المنظومة. وصحيح أن آثار هذا المنشور، لكونه قد صدر في مدة قريبة نسبيا، لازالت غير واضحة المعالم من حيث التطبيق سواء ضمن دوائر ضباط الحالة المدنية أو الدوائر القضائية، إلا أنه خطوة حاسمة في سياق تجاوز تأثير الخلفية الدينية للمواطنين على حقوقهم المدنية.
تغيير الإسم لأسباب دينية والرفض الضمني
لا يطرح الإسم في علاقته بحرية المعتقد فقط مشكل إسناد الإسم للطفل المولود حديثا، ولكنه يفتح الباب أمام إشكال آخر هو جواز تغيير الإسم من عدمه على خلفية تغيير الدين. بداية لابد من العودة لما أشرنا له بداية وهو أن فلسفة الحالة المدنية مبنية أساسا على مبدأ الثبات وعدم القابلية للتغيير. وبالتالي فإن قابلية الاسم للتغيير من حيث الأصل هو أمر غير جائز، غير أن القانون سمح بإمكانية تغييره من باب الاستثناء وذلك ضمن القانون عدد 20 لسنة 1964 المؤرخ في 28 ماي 1964 والمتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب أو الإسم. وما نستشفه من هذا القانون بداية هو خطورة الإجراءات، إذ ينص الفصل الثالث من هذا القانون على ضرورة توجيه مطلب التغيير إلى وزارة العدل. ثانيا، ينص هذا القانون على قائمة حصرية للفرضيات التي يجوز فيها تغيير الإسم[16]، وهي قائمة لا نجد ضمنها تنصيصا صريحا على تغيير الإسم تبعا لتغيير المعتقد في المطلق لا تصريحا ولا بشكل ضمني. غير أن السبب الأول يعكس صورة ضمنية من الممكن أن تعكس تأثيرا للمعتقد وهي قابلية تغيير الإسم للتونسيين الذين لا يحملون اسما عربيا وهي صورة من الممكن أن تشمل خاصة إذا ما ربطناها بمنشور 1965 سالف الذكر، التونسيين اليهود الذين يتمتعون بالحق في إختيار إسم غير عربي، في هذه الحالة يمكن لليهودي أن يغير اسمه إلى إسم عربي تبعا لتغيير دينه نحو الإسلام أو بدونه[17]. ويتدعم هذا الرأي بالعودة للفصل الأول من هذا القانون والذي جاء فيه: “يمكن لكل شخص اكتسب الجنسية التونسية أن يطلب الإذن بإبدال لقبه واسمه بأمر”. وهي صورة كثيرا ما تتعلق بأجانب أوربيين أو أوروبيات اختاروا التجنس بالجنسية التونسية واعتناق الإسلام للزواج بقرين تونسي أو دون ذلك، هاتان الصورتان الأخيرتان تؤكدان ضمنيا أن تغيير الإسم تبعا لتغيير الدين مقبول في تونس ضمنيا فقط في اتجاه أحادي وذلك متى ما تعلق الأمر بتغيير الدين نحو الإسلام فقط. والأمثلة على ذلك متعددة ومنها نذكر ما جاء في الأمر الحكومي عدد 377 لسنة 2019 والمؤرخ في 17 أفريل 2019 والمتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب وتحديدا في فصله الخامس الذي اجاز تغيير جملة من الأسماء غير العربية أو المغربية لأخرى عربية ومن بينها: “ميكائيل” الذي تم تغييره “لنبيل” و”أوريانا” “لآسيا” و”سام بن رؤول” إلى “سامي”[18].
في التجارب المقارنة، نجد أن المسألة طرحت أمام القاضي الفرنسي ولكن في ظروف مختلفة، ذلك أن القانون الفرنسي يقبل بإمكانية تغيير الإسم بشرط إثبات وجود مصلحة شرعية لهذا الطلب، وفقا لما جاء في الفصل 60 من المجلة المدنية المدنية الفرنسية. وللإجابة على سؤال، هل أن تغيير الدين من الممكن أن يكون سببا جديا وشرعيا لتغيير الإسم، نجد أن فقه القضاء الفرنسي أجاب على ذلك بالإيجاب عندما تعلق الأمر بشخص قام بتغيير اسمه لاسم فرنسي في إطار سعيه للحصول على الجنسية الفرنسية، ثم طلب في وقت لاحق تغيير اسمه لآخر إسلامي وذلك بسبب رغبته في اداء فريضة الحج في مكة. ولكن في قرار آخر رفضت المحكمة طلبا مماثلا لعدم تقديم الطالب مبررات كافية لإثبات عدم قدرته على أداء شعائره الدينية الإسلامية بسبب اسمه المسيحي[19]. وعليه يكون تغيير الإسم ممكنا على أساس المعطى الديني بشرط إثبات تعارضه مع الحق في ممارسة الشعائر الدينية أو حرية المعتقد، وهو أمر لا يبدو أن المنظومة القضائية والتشريعية التونسية تؤخذ به إلا في اتجاه واحد عندما يتعلق الامر بأسباب دينية أو لغوية، رغم تطور فقه القضاء وقبوله بإمكانية تغيير الإسم على خلفية تغيير الجنس منذ سنة 2009[20].
خاتمة
في الختام فإن ما يستخلص من كل هذا يتمثل فيما للاسم من ارتباط وثيق بمنظومة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لا فقط تكريسا للحق في الهوية ولكن كذلك كضمان لحرية المعتقد والحق في ممارسة الشعائر الدينية. وهي حقوق وحريات تنضبط لما يحكم مادة الإسم من ضرورة الثبات والاستقرار، بل وحتى توجه الدولة في ورغبتها في توجيه ثقافة وهوية المجتمع والأفراد. وفي التجربة التونسية، نجد أن هذه المادة مرت بتجربة ثرية، وفي علاقة بحق الوالدين في إختيار الأسماء بناء على الخلفية الدينية لهما، اختار المشرع، استجابة للمستجدات السوسيولوجية والحقوقية منذ 2011 القطع مع المنع وفتح المجال أمام الاختيار الحر والمقيد فقط بمصلحة الطفل المثلى. وفي مقابل هذا التوجه التحرري عند الإسناد، نلاحظ أن الحق في تغيير الإسم لازال مقتصرا فقط على أولئك الذين اختاروا الدخول في الإسلام وليس العكس.
[1] في علاقة الحقوق الذاتية بالقانون الطبيعي: محمد حمودة، فلسفة القانون، مجمع الأطرش، تونس 2021، ص115
[2] Alajmi A. y Keshik K. (2013). Umayyad Ideology and the Recurrence of the Past. Anaquel de Estudios Árabes, 24, P. 15
[3] القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرة أوت 1957 والمتعلق بتنظيم الحالة المدنية.
[4] الشريف (م. الحبيب)، النظام العام العائلي: التجليات، مركز النشر الجامعي، تونس 2006، ص205
[5] شرف الدين (م. كمال)، قانون مدني: النظرية العامة للقانون- النظرية العامة للحق، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2017
[6] الجلاصي (م. أمين) عندما تختار الدولة أسماء أبنائنا، ضمن المناشير السالبة للحريات: قانون خفي يحكم دولة القانون، مؤلف جماعي تحت إشراف وحيد الفرشيشي، الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس 2018، ص 115
[7] “قواعد النظام العام بتونس… منها العروبة والإسلام اللذين هما من مقومات السيادة التونسية حسب دستورها ولا يمكن الحياد عنهما” هذا ما ورد بالحكم الإبتدائي عدد 26.855 والصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس في 29 جوان 1999.
[8] تجدر الإشارة هنا إلى التضييق والحد من حرية اختيار الأسماء الامازيغية أيضا بقطع النظر عن علاقتها بالمعطى الديني. للمزيد حول هذه المسألة.
الجلاصي (م. أمين) المرجع السابق، ص117
[9] القليبي(س.) خواطر حول الحريات الدينية في دستور 2 جانفي 2014، ضمن الحريات الدينية، مؤلف جماعي تحت إشراف وحيد الفرشيشي، الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الدينية، سبتمبر 2015، ص15
[10] عن المناشير ودورها في الحد من الحريات الدينية تحت مسمى الدفاع عن الطابع التونسي أنظر:
العويتي (ع.) المناشير والحريات الدينية في تونس، ضمن المناشير السالبة للحريات: قانون خفي يحكم دولة القانون، مؤلف جماعي تحت إشراف وحيد الفرشيشي، الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس 2018، ص52
[11] الحلاصي، مرجع سابق، ص108
[12] صادقت الدولة التونسية على هذه الاتفاقية بموجب القانون عدد 92 لسنة 1991 المؤرخ في 29 نوفمبر 1991
[13] Monéger (F). Religion au regard du statut personnel et familial. In: Revue internationale de droit comparé. Vol. 66. N°3,2014. p 698
[14] الجلاصي، مرجع سابق، ص 117
[15] الجلاصي، مرجع سابق، ص 121
[16] ينص الفصل الثاني من هذا القانون على:” يمكن لكل تونسي ليس له اسم عربي أو مغربي أو له إسم يكون من أجل معناه أو عند النطق
به محل التباس أو سخرية أو له نفس الاسم الذي لأحد أخوته أو أخواته أن يطلب الإذن بإبدال إسمه بأمر. ويقوم بتقديم المطالب التي تهم القصر ممثلوهم الشرعيون”
[17] يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 09/06/2003، والذي تناول في حيثياته تغيير أحدى طرفي النزاع لإسمها “كليمانو” إلى آخر عربي تبعا لتغيير دينها من اليهودية إلى الإسلام.
[18] الأمر الحكومي عدد 377 لسنة 2019، مؤرخ في 17 أفريل 2019 والمتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب أو الإسم، مدرج في الرائد الرسمي عدد 377 بتاريخ 26 أفريل 2019.
[19] حول هذين القرارين، أنظر:
Mongere,op. cit , P699
[20] الحكم الإبتدائي عدد 12304 الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس يتاريخ 09/07/2018، والمعروف بقرار “لينا-ريان”