مدينة الكاف: بين تاريخها الإبداعي العريق وحاضرها الاجتماعي والثقافي المثقل بواقع سياسات التهميش
نُطلب ربِي نشالله الريح يعديِ ونُوز غزالي عندي
أهْ يا دنيا لو كان جِيتي بيديِ ونلبس وردي وتزيد الجنة في إِيديِ
هو يڨليِ وُلفيِ ونايا نڨلوُ أنت سيديِ، يا سيدي وأنت سيدي
أهْ يا دنيا لوكان جِيتِي بيدي …لو كانت جيتي بيديِ
انتشر مقطع تأدية الفنان بحري الرحالي لجزء من أغنية طرق المحبّة، بلهجة كافية خالصة وهو يعاتب الممثلة ريم عياد في مسلسل رڨوج للمخرج عبد الحميد بوشناق. دفع هذا المقطع الذي غناه الرحالي في دور عباس، فضول التونسيين من أجل البحث عن الأغنية وإعادة تنزيلها ومشاركتها على صفحاتهم الخاصة. بل وصل الأمر بالكثير منهم إلى النبش في تاريخ الفرقة الجهوية المسرحية القارة بمدينة الكاف من أجل الثناء على أداء البحري الرحالي في المقطع الذي جمع بينه وبين الممثلة ريم عياد (شامة بنت عباس) في مشهد درامي يدمي القلوب يجمع بين حب الأب و قسوة المجتمع والسلطة البطريركية على ضحايا الاغتصاب. ولقد أخذتنا الأغنية لنسافر إلى مدينة الكاف مدينة الفنون والغناء، وجعلتنا نحاول تقديم هذه المدينة الاستثنائية من جوانب متعددة.
وفي الرّحلة إلى الكاف، تبرز الجبال العالية لتشكّل محيط المدينة، ويمتدّ السّفر في طريق وعرة مليئة بالمنعطفات وأشجار الصنوبر حتّى يشرف المرء على مداخل المدينة. وفي وسط المشهد العلويّ قلعة حجرية عتيقة مطلة على كافة أرجاء المدينة وضواحيها؛ إنها قلعة القصبة ذاك الحصن العسكري الّذي مثّل مركز حُكم عديد الحضارات المتعاقبة على المدينة، وتعتبر اليوم رمزا معماريا وثقافيا وحضاريا بارزا لمدينة الكاف. وهناك في الأفق الرحب، حيث تحمل القلوب المليئة بالأمل أصحابها الحالمين على النظر بعيدا، تظهر قطعة حجرية عملاقة تلقي بظلالها وهالتِها على الفضاء متحدية قوانين المكان والزمان لتبقى شامخة على مر العصور إنها مائدة يوغرطة. وجدير بالذّكر، أنّ بولاية الكاف مواقع أثرية ومعالم عديدة، منها ماهو مصنف ومحمي من قبل المعهد الوطني للتراث ليصل العدد إلى حدود 38 موقعا.
مدينة الكاف: تاريخ طويل رافقته ديناميكيات ثقافية تجاوزت حدود المدينة
مدينة الكاف العالي، مدينة الثقافة عرفت بالمسرح والموسيقى المتنوعة مثل الموسيقى الصوفية بكل روافدها تقريبا (العيساوية والرحمانية والقادرية والعلوية …) والتراث الموسيقي الشعبي من المنسيات وأغاني الهطَايا، إضافة إلى عدد من الفرق الملتزمة التي أثرت المدونة الموسيقية التونسية بأغان خلدت في تاريخ الأغاني الثورية الاحتجاجية في تونس بداية من المظاهرات الطلابية ومدارج الكليات وصولا إلى أحداث الخبز وثورة 17 ديسمبر 14 جانفي التي عصفت بالنظام الديكتاتوري معلنة ولادة زمن الحرية واستحالة عودة الشعب التونسي إلى أغلال التسلطية والدكتاتورية وأنظمة قمع الحريات مهما اختلفت تسميتها. ومن بين تلك الأغاني نذكر:
الڨمح في المنادر ڨالوا صابة * ثم نصيب للسلب يا نهابة
زرعنا وحصدنا وأنتم هزوا* من وسط البابور ما يدَزُوا مضارب الفئران فاتح بابه…
وهو مقطع غنائي من أشهر أغاني فرقة أولاد بومخلوف المعبر عن الاحتجاج والغضب ونقد الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لفلاحِي الشمال الغربي وعموم التونسيين، وتعد هذه المجموعة الموسيقية من بين الفرق الغنائية الملتزمة إضافة إلى فرقة فريڨا الأقل شهرة (من بين مؤسسيها المرحوم بلال شڨرون ومحمد الشنُفوني…) والّتي يعتبرها “فؤاد السعداوي” مدير المركز الثقافي الهادي الزغلامي “فرقة ثورية منسية كانت تمارس تحريضا ثوريّا مباشرا، لا فقط نقدا اقتصاديّا واجتماعيّا…”
ولا يمكن زيارة الكاف أو الكتابة عن المدينة دون الغوص في التاريخ الطويل للفعل المسرحي في هذه المدينة الثقافية بامتياز، وهو ما أكده السعداوي الشغوف بالمسرح منذ طفولته بحكم أنه يمتلك تجارب ثرية في المسرح الطفل والمسرح الهاوي. وهو الذي عايش والده الفنان الراحل و أحد رموز المسرح بتونس وجهة الكاف خاصة، الهادي الزغلامي صاحب المسيرة الإبداعية والفنية الطويلة، الّذي أدى أدوارا مسرحية عديدة ضمن أعمال كل من المنصف السويسي و الفاضل الجعايبي و كمال العلاوي و الصادق الماجري و عبد اللّه رواشد وغيرهم من المخرجين.
ويذكر أن مسيرة هذا الفنان انطلقت سنة 1963 مع مسرح الهواية، ثم اتخذ المسرح مهنة سنة 1967 وفي رصيده أكثر من ثلاثين مسرحية آخرها مسرحية «العصافير» ضمن مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف. أكد السعداوي في قراءته للتجربة المسرحية في مدينة الكاف أن المسرح الكافي حسب عبارته “هو الهامش الذي فرق النسق”. فمن ذاك الهامش خرج المسرح بصفته علامة فارقة في تاريخ المدينة ولم يكن هذا المسار هجينا عن حاضنة “أناركية ثقافية” غير منظمة و لكنها موجودة بقوة.
صور الفرقة المسرحية القارة بالكاف أثناء تأدية أحد العروض المصدر: أرشيف مؤسسة الهادي الزغلامي
كان الكاف ملونا بالفنون منذ الأربعينات والخمسينات وحتى قبل ذلك بكثير، وعرف تجارب في الموسيقى و مدارس صوفية عريقة. وكانت تجارب غنيّة في مجملها بالغناء و الكلمة و المسرح الذي جمع هذه التعبيرات الفنية في تجربة مسرحية مازال صداها يتردد إلى الآن. كما ظهرت منذ أواسط القرن الماضي تجارب مسرحية هاوية تكثفت فيها نواة “فرقة السنابل” التي جمعت شبابا مغرما بالسينما و “بالتمثيل” باعتباره أداة تعبير فني و قدرة درامية خلاقة قادرة على تغيير الواقع ما بعد الحرب. فعوّض دمار المعارك بجمالية السينما التي ألهمت الناس وشغلتهم فحاولوا التجسيد في مسرح يستحضرون فيه رموز الفن والدراما العالمية. وقد شكّلت هذه التّجارب النواة التي أسست الفرقة المسرحية القارة بالكاف سنة 1967 تجسيدا لرؤية الدولة التي سطرها بورقيبة في خطابه المنهجي في اليوم العالمي للمسرح 27 مارس 1964.
و كان من نتائج تأسيس هذه الفرقة، بروز جيل من الشباب المسرحي التونسي في الخارج، ليكوّنوا فيما بعد أدوات التحديث في المسرح، وتنطلق من خلالهم التجربة في الهامش الكافي لتُنافس المركز بطاقات خلاّقة من كل مكان من تراب هذا الوطن آمنت بالمسرح وشاركت في صياغة هذه الحركة الفنية وإنجازها، وساهمت بشكل كبير في تطوير الوعي في الجهات الداخلية و نشر المسرح وأنماط فنية جديدة تواكب التغيرات الاجتماعية و التي كان من الحتمية التاريخية أن يرافقها تطور ثقافي مناسب.
وقد بلغت تجربة المسرح في الكاف أوجها بإنتاج مسرحيات ثورة الزنج و الحلاج والمحارب البربري وعطْشان يا صبايا. وكانت المدينة حاضنة لعديد التعبيرات الفنية الأكثر معاصرة حينها مثل التعبير الجسماني والرقص والتجارب الغنائية من التقليدية الشعبية حتى الملتزمة. وتحولت تلك الفرقة إلى منصة تكوين وبعثت جيلا من المسرحيين عادوا إلى مدنهم و نشروا مسرحا وأسسوا فرقا وأثروا المشهد فيما بعد.
بل تجاوز تأثير الكاف وحضورها حدود الوطن و نالت الفرقة شرف تمثيل تونس في عديد المحافل المسرحية (يوغسلافيا و الجزائر و المغرب و العراق و قطر و البحرين و الكويت ..) وكان أولئك الفنانون سفراء تونس واكتسحت عروضهم سهرات افتتاح مهرجانات قرطاج والحمامات في نفس الصائفة. وقد كان لنجاح هذه التّجربة الأثر الطّيّب في بقيّة الجهات، فتأسّست الفرقة الجهوية بقفصة 1974 لتكون محطة فنية مؤثرة و إن كانت بخطاب نقدي آخر. ولا يمكن أن ننظر إلى المشهد في كليته ومن يحركه من بعيد حتى تنال فرقة الكاف كل هذا الزخم والحظوة وحتى ينتصر الهامش ولو إلى حين.
ومع تراجع دور الدولة في دعم الفعل الثّقافي دعما فاعلا ومباشرا أواسط السبعينات، تراجعت فرقة الكاف وتجربتها المسرحية وغرقت في إشكاليات الديون والدعم والتمويل رغم المقاومة من أجل البقاء، ورغم أدوار مؤسسات التأطير والتوجيه والتكوين والإنتاج والهياكل التي انبثقت والبرامج التي وقع إعدادها والإصلاح الهيكلي الذي صبغ الزمان والمكان. لقد كانت فرقة التمثيل بالكاف جهوية في تسميتها وطنية في مكوناتها إنسانية في قيم الحرية والكرامة التي دافعت عنها. وكانت تجربة ثورية أدّت دورها التاريخي وانتهت.
للأسف يمكن اعتبار الحركة المسرحية اليوم في الكاف أشبه بطيف وظلال حزينة لأيام المجد والنجاح الطويل التي عاشتها الكاف في المجال المسرحي والإبداعي بشكل عام، لكن تبقى محاولات شبابية من هناك وهناك تحاول إعادة النفخ في روح الحركة المسرحية والثقافية لعلها تبعث من جديد.
السياحة البديلة وجه آخر من وجوه الكاف الجميلة
تشتهر ولاية الكاف بتنوعها البيئي والثقافي وتعتبر وجهة جاذبة للسياح الراغبين في اكتشاف التاريخ والثقافة والطبيعة الجبلية المميزة للمدينة وضواحيها القريبة وبعض القرى والمدن المحيطة بالمدينة والمرتبطة تاريخيا وإداريا بها مثل تاجروين والمدينة (ألتبيِروس). تزخر أيضا بتنوع بيولوجي غني نظرا لمناخها وتضاريسها الجميلة ويوجد عدد من المحميات الطبيعية مثل محمية صادين الواقعة في جبل صدين بين مدينة الكاف ومدينة ساقية سيدي يوسف.
وقد نشطت في السنوات الأخيرة حركات السياحة البيئية البديلة، من أجل حماية الطبيعة وتوفير مدخول مالي للحرفيات وسكان الجهة عموما، ضمن ما يمكن تسميته بالسياحة الخضراء. وفي هذا السياق حاورنا الناشط البيئي والثقافي في الجهة “محمد العابسي” الّذي يحدثنا حول الوجه الجميل للتراث المادي واللامادي لمدينة الكاف، خاصة حول السياحة البيئية وأكد “العباسي” أنه ناله الشرف مع ثلة من شباب الكاف الناشط في المجال السياحي والبيئي البديل في إنشاء وتأسيس العديد من المسالك الصحية التي توفر الفرص للسياح لممارسة الرياضات الجبلية في بيئة طبيعية متنوعة وخلابة، ومنها رياضة المشي التي تساعد علي تقليل التوتر وتحسين المزاج والشعور بالاسترخاء، وركوب الدراجات الهوائية من أجل التنقّل في المناطق الوعرة والاستمتاع بجمال الطبيعة ومشاهدة الطيور والتعرف على المخزون البيئي الثري.
بعض الصور لعدد من الزيارات لمواقع طبيعية وأثرية لولاية الكاف المصدر: محمد العباسي
ساهمت هذه المجموعة أيضا، في إحداث موقع للتخييم في قرية “المديْنة” من معتمدية الدهماني وفي مغارة الفنون لصاحبها الفنان التشكيلي عمار بلغيث، إلى جانب إحداث ورشات تكوينية في تقنيات التخييم ورياضة اليوڨا والتأمل. ومن خلال هذه النشاطات ساهمنا في جذب العديد من السياح للتعريف بالمخزون البيئي وتنشيط الحركة الاقتصادية وتثمين المنتوجات الحرفية خاصة للنساء الكافيات سواء في الطبخ أو النسيج أو الخزف…وإذ تشكل الغابات والجبال والأنهارجزءاً هاماً من النظام البيئي الطبيعي في تونس وتلعب دوراً حيوياً في الحفاظ على التوازن البيئي والحياة البرية، فإنّ الكاف واحدة من المناطق الّتي تزخر بهذا الرّصيد الطّبيعي المتنوّع. كما لعبت الأنماط السياحية والثقافية البديلة بعد الثورة دورا مهما في تنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية لسكان مدينة الكاف وأعادت منحها الدور الثقافي التاريخي المناط بها بصفتها واحدة من أكثر المدن الحاملة للزخم والحركة الثقافية في البلاد التونسية.
كهف الفنون: صرخة الهامش البعيد من أجل عدالة ثقافية
بعد سنوات من الهجرة خارج حدود الوطن، خير الفنان التشكيلي عمار بلغيث العودة إلى مدينته الأم الدهماني التابعة إداريا إلى ولاية الكاف.
حول “بلغيث” كهفا مهجورا إلى مكان ثقافي متكامل يجمع أنواعا من الثقافة والفنون، ويكون نقطة الربط بين الأنشطة الثقافية المختلفة في الكاف ومدينة الدهماني وتحديدا منطقة “المديْنة” أو “ألتِبيروس” ذلك الاسم الروماني القديم. كان الدليل السياحي المحلي “محمد العباسي” سفيرنا في هذه الرحلة الرابطة بين الكاف التاريخية “سيكافينيريا” و “المديْنة ألتُبِيروس”، في رحلة ثقافية سياحية تنهل من عبق التاريخ وقناعات السياحة البديلة في وجه مناضل ومُحتج وملتزم يرسمه عدد من الناشطين الثقافين في مدينة الكاف اليوم.
يعدّ “عمار بلغيث” الذي خير أن يكون مختلفا ومُتفردا جغرافيا وفنيا، واحدا من أهم الفنانين التشكيليين في تونس والوطن العربي. إذ عاش الأخير قصة ترحال طويلة في أرجاء العالم، منذ تخرجه من المعهد العالي للفنون الجميلة بالعاصمة تونس أواخر سبعينيات القرن العشرين، ثم رحلاته المختلفة بين السعودية وهونج كونج وإندونيسيا. وعند عودته، أنشأ كهفا للفنون في تجويفات كهف جيولوجي تفننت الطبيعة في نحته قبل تدخل أنامل بلغيث في تحويل صبغته من الطبيعية إلى الثقافية، وهذا الفضاء هو عبارة عن أيقونة فنية تونسية أصيلة تجمع مختلف الفنون والإبداعات من رسوم كاريكاتورية ( مارس بلغيث لفترة طويلة الرسم الكاريكاتيري الساخر والرسم في عدد من المؤسسات العاملة بهذا المجال).
صورة عمار بلغيث أثناء رسمه أحد لوحاته
المصدر : صورة محمد عباسي
يمكن أن نعتبر “بلغيث” من خلال تعريفه بنفسه واحدا من الفنانين المختلفين والمتمردين في تحديد مسار حياتهم الشخصية والمهنية بطريقة إبداعية ساخرة انطبعت هذه الفلسفة تقريبا على كل أعماله. ويمكن اعتبار هامشية “عمار بلغيث” اختيارية، رغم أنّها هامشيّة مفروضة من الجهات الرسمية على مر عقود. وتجسّدت في عدم تمكينه من حقوقه الثقافية في أحيان كثيرة حسب روايات عديدة ومتكررة من أغلب الفاعلين والناشطين الثقافيين، سمعتها في مدينة الكاف وأنا بصدد كتابة هذا النص.
في النهاية، يحملك الكهف والحديث مع “بلغيث” وتنوع الصور إلى التفكير في ماضي ولاية الكاف وحاضرها. والسؤال المطروح هنا هل يسير الزمن في هذه الربوع إلى الوراء ؟ وقد يستدرك عقلك التشاؤم بجرعة تفاؤل مدارها محاولات ثقافيّة بديلة يؤمّها أمثال “بلغيث”. فهل تنجح هذه المحاولات (مثل المركز الثقافي الهادي الزغلامي أو مجموعات السياحة البديلة أو حتى كهف الفنون) في تعديل حركة الزمن الثقافي في مدينة الكاف ودفع عجلته نحو الأمام ؟