دڨة و تبُرسق: مدينتان متجاورتان تحكيان دقة واستثنائية هندسة القدامى مقابل عشوائية وضيق أفق الحاضر
أينما توجد الأرض الخصبة ومصادر المياه، تولد الحضارات والمدن الكبرى. حينما تحوّلت المجتمعات البشريّة تاريخيا من الصيد إلى الزراعة، ومن ثمّ تأسيس تجمعات سكانية أولى كانت فيما بعد هي النواة الأساسية للمدن والحضارات وشكلا من أوضح أشكال تناسق الإنسان في وجوده المتناغم مع الطبيعة ما قبل محاولة كبح جماحها والسيطرة عليها وإخضاعها من أجل استنزاف ثرواتها.
وهو ربما ما جعلها تنتفض بشكل متطرّف في تمظهرات التغيّرات المناخيّة وما نتج عنها من أعاصير وأمطار طوفانية وجفاف … هذا التناغم والتآلف البشري مع الطبيعة وحسن تدبيرِها كان جليّا واضحا في الحضارة الممتدة والمتصلة بالزراعة والفلاحة التي سوف تنتج قائض يخلق تجارة بحرية وبرية وحاجة أكبر للتوسع والأرض الخصبة المنتجة.
كان الرومان من بين أكثر الشعوب والحضارات حكمة وحسن تدبير للمياه والمدن، فلو بنيت المدن الرومانيّة القديمة في زمننا الحاضر سوف تطابق بل وربما تتفوق في فرادتِها وخصوصيتها المدن الخضراء أو الايكولوجية. ومن بين المدن الرومانية القديمة التي شدتني وأنا بصدد التفكير في الكتابة عن المدن التونسية كانت مدينة تبرسق التي تحوي مدينة دڨة (Dougga) الأثرية ربما من أجل الصدمة وملاحظة الفرق الصارخ بين الفلسفة الرومانية في العمارة والتعامل مع الفضاء المحيط بالمدينة والواقع الحالي بمدينة تبرسق في كل جوانبه وأبعاده الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى في تثمنين الآثار الرومانية الفريدة في حالتها الجيدة في العالم للمدينة الرومانية القديمة دقة ويكون هذا المقال عبارة على بورتريه مزدوج، مدينة في زمنين بين الماضي والحاضر بين التنمية الرومانية إن صحّت العبارة وفلسفة التشييد والبناء الرومانية أي مدينة دڨة وبين واقع المدينة اليوم تبرسق وهو إبحار زمني تاريخي يحاول نقد الحاضر من خلال الماضي البعيد نسبيا وأيضا نقد السياسات الثقافية التي همّشت المواقع الأثرية وأخرجتها من سياق التثمين الممكنة وجعلتها بعيدة عن المدينة كأنها عزلتها عن الفضاء العمومي والحيوي للمدينة، بعبارة أخرى قبح الخيارات التنمية المعاصرة بمدينة تبرسق يعاقب نجاح النموذج الروماني لمدينة دڨة.
حاولنا في هذا المقال أيضا التجوّل مع أبناء المنطقة والناشطين هناك والسؤال حول الوضع الثقافي والاقتصادي والبيئي ونقل أصوات الهامش البعيد والمنسيين والمنسيات وغير المرئِين وغير المرئيات أو المبعدين قسرا من الخرائط الرسمية للدولة.
بيت دڨة وتبُرسق: ماضي مشرق مقابل واقع رمادي
لا يدّعي العنوان الفرعي للمقال أن الشروق أفضل من الحالة الرمادية للطقس، لكنه بقي وفيا للاستعارة اللغوية التي تصف جماليّة الوضع وحسن تدبير السّاسة والوضعِيّة الجيّدة السكان والمواطنين بالوضعية المشرقة.”حتى أن رئيسنا الأسبق الذي أطاحت به الثورة اِحتجّ على الاحتجاج واصفا نفسه بأنه ليس الشمس التي يمكن تشرق على كل الوطن، وبالتالي يمكنها حل جميع المشاكل والإطلاع عليها.”تعتبر دڨة مدينة أثرية تقع في معتمدية تبرسق من ولاية باجة في الشمال الغربي التونسي المعروف بالجبال والسهول الفسيحة وخضرة التضاريس وبأنه المنطقة التي تحوي نسبة التساقطات الأعلى من الأمطار والمائدة المائية الأكبر من الثورات المائية في البلاد التونسية.
تم إدراج المدينة ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو سنة 1997، باعتبارها أفضل مدينة رومانية محفوظة في شمال أفريقيا، وهذا الاعتراف الدولي والعلمي بحفاظ المدينة على حالتها أقرب إلى الحالة الأولى هو ما جعلني أفكر في كتابة هذا البورتريه الخليط بين المدينتين لشدة التناقض بين الماضي والحاضر.
مدينة دڨة المعهد الوطني التراث
توجد دڨة الحالية داخل ضيعة فلاحيّة، جعلها ربما محميّة من الزّحف العمراني، عكس عديد المواقع الأثرية الأخرى وربما أشهرها قرطاج مثلا. تمتد المدينة على مسافة 70 هكتارا، محافظتها على الآثار بثراء تاريخها البونيقي، النّوميدي، الروماني والبيزنطي. تستمد مدينة دقة اسمها الحالي من اسمها الأمازيغي القديم وهو تُوغًّا [1]Thugga ويعني اسمها الجّبل الصّخري.
تعتبر السردية الأكثر شهرة في علاقة التأريخ لمدينة دڨة هي السردية الرومانية حيث أسلفنا الذكر أن المدينة تعتبر أفضل موقع روماني من حيث الحفاظ على خصوصيته، على الرغم من هذه الشهرة كمدينة رومانية فإن العديد من الاكتشافات تبين الآثار قبل الرومانية، كإيجاد ضريح ومقبرة ومعابد، وهو ما يشكل مُؤشّراً على أهمية الموقع قبل وصول الرومان، إلا أن التاريخ الأكثر وضوحا وتحديدا للمدينة، هو العصر الروماني وقد انشغل واهتم به عديد المؤرخين، وقد بينت البحوث التاريخية أن الاسم الزائل للمدينة كان “تبغ”، وهو مستمد من كلمة ليبية قديمة تعني الحماية، يفسر هذا ربما لوجود المدينة على قمة هضبة يمكن الدفاع عنها بسهولة. ولكن المؤرّخين الذين يعتقدون أن المدينة تأسّست في القرن السادس قبل الميلاد يقولون إن اسم دقة كان “توكاي” باللغة اليونانية القديمة، وقد وصفها ديودورس الصقلي، بأنها مدينة عظيمة وجميلة.
كانت دقة مُستوطنة بشريّة مهمة، ومما يدلُّ على طابعها الحضري، هو وجود مقبرة فيها مذبح صخري للقرابين، وهي الاكتشاف الأثري الأشدّ قدماً في دقة، وكان مُخصّصا لـ “بعل حمون”، إله الخصوبة والمحاصيل في ديانات شمال أفريقيا. كما توجد المسلات والشظايا المعمارية وضريح ومعبد مخصص لماسينيسا، وبقايا كثيرة تم العثور عليها خلال الحفريات الأثرية. وتقول اليونيسكو إنه رغم عدم المعرفة الجيدة بتاريخ المدينة قبل العصر الروماني؛ فإن الاكتشافات الحالية في الموقع أحدثت ثورة في التصور الذي كان موجوداً عن هذه الفترة.
تقع مدينة تبرسق [2]في الشّمال الغربي للبلاد التونسية ضمن ولاية باجة المعروفة بالنشاط الفلاحي، تبعد المدينة حوالي 103 كم عن تونس العاصمة.تتخذ من منطقة جبلية يبلغ ارتفاعها ما بين 400 و600 متر عن مستوى سطح البحر، موقعا لها. مثل أغلب مناطق الشمال الغربي التونسي تتميز تبرسق بمناخ بارد جدا ورطب في الشتاء بالنظر إلى الارتفاع الذي يؤدي إلى تساقط الثلوج، فيما تعرف المدينة ومحيطها صيفا حارا.
عرفت المدينة مجدها خلال الفترة البونية أو القرطاجية فنمت وازدهرت في ظل إمبراطورية قرطاجية مهابة في البحر الأبيض المتوسط من القوى الكبرى وخصوصا الإغريق والفرس الذين كانوا يغيرون على المدن الفينيقية الشامية فيجدون الأساطيل القرطاجية لهم بالمرصاد حماية لأرض الأجداد الأوائل. وبعد قرون من الهيمنة القرطاجية على المتوسط برزت روما كقوة جديدة في هذا البحر الأسطوري فكانت نهاية قرطاج العجوز على يد روما الفتية فآلت تبرسق بداية إلى النوميديين حلفاء روما في شمال أفريقيا والذين غدر ملكهم ماسينيسا بقرطاج وقدم أفريقيا الشمالية على طبق من ذهب للمستعمر الروماني سنة 146 قبل الميلاد. ثم سرعان ما باتت المدينة جزءا من مقاطعة أفريكا الرومانية التي أصبحت مدينة قرطاج بعد إعادة إعمارها عاصمة لها وغدر الرومان بالنوميديين الذين غدروا بقرطاج. بالرغم من أن محمد حسين فنطر[3] يرجعها للفترة اللوبية فخلال الحرب البونية بين روما وقرطاج كانت تبرسق تتبع الأراضي القرطاجية إلى جانب باجة ودقة، وبعد سنة 146 ق م أصبحت تابعة للنوميديين.
ولم تفقد تبرسق أهميتها خلال الحقبة الرومانية بالنظر إلى كثرة مياهها الجوفية وتساقطاتها وخصوبة الأراضي المحيطة بها خاصة وأن الرومان أولوا أهمية بالغة للزراعة واستفادوا من تطور هذا العلم لدى القرطاجيين والذي اختصر في مدونة عالم الفلاحة ماجون القرطاجي. لقد تحولت تبرسق مع الرومان من بلدية إلى مستعمرة ثم مدينة في عهد الإمبراطور الروماني الأفريقي (نسبة إلى أفريكا الرومانية أي تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا) سيديم سيفار أو سبتيموس سيفيروس حسب النطق اللاتيني.
مازالت تبرسق إلى اليوم تعيش على النشاط الفلاحي وهو ما أكده لنا سيف وهو من الفلاحين الشبان حيث أنه بزرع الزياتين والخضر الموسمية ويؤكد على عراقة الزياتين في المدينة، وتأثر كافة أوجه الفلاحة بالتغيرات المناخية وأصبح الأخير من بين الناشطين في مجال الفلاحة البديلة وضرورة استعادة الموروث الفلاحي للمدينة. لا يمكن بأي شكل من الأشكال مقارنة ماضي المدينة بحاضرها، أو مقارنة حسن تدبير الرومان للمياه والهندسة المدنية بالمثال العمراني الحالي للمدينة الذي لا يراعي خصوصية الطبيعة والتأقلم مع التغيرات المناخية الحاصلة اليوم.
دڨة هبة الماء والهندسة الرومانية “الخضراء”
هندسة المدينة التي حافظت على وجودها الفريد، والمطابق تقريبا هندستها الرومانية تبرز ملامح التناغم الطبيعية والهندسي والحفاظ وتثمين المياه وحسن تدبيرها. في هذا السياق حدثنا الهندي المعماري لسعد بن جاء الله وهو مهندس معماري مهتم بالهندسة الخضراء صديقة البيئة وكان قد اشتغل في أبحاثه الجامعية حول الطرق الهندسية التاريخية الرومان في تثمين وحسن تدبير المياه وتوزيعها خاصة في الشمال الغربي التونسي أين توجد أكثر من مدينة رومانية. ويُعدّ بن جاء بالله اليوم من رواد الهندسة الخضراء ومن أكبر المدافعين عليها في تونس. حيث أكد أن دڨة مدينة استثنائية في هندستها وخاصة في تناغمها مع محيطها وثرواتها الطبيعية ومواردها المائية. حيث صرح بالتالي “هل احتفظت ببعض الأفكار عن روما؟ كيف هي في ذاكرتك[4] ؟ وفي منجم لن يكون هناك في يوم من الأيام سوى مياهه، مياهه الصافية الثمينة المتحركة التي تعيش في ميادينه، سلالمها، التي تبني على صورة الشلالات، تسحب بشكل غريب خطوة من خطوة أخرى، مثل موجة من موجة أخرى….
في مدنهم، أراد الرومان في كثير من الأحيان جعل مدنهم حضارية في كل خدماتها وعمومية بشكل يجعل الماء حق لكل متساكني المدن الرومانية، وربما كانت دڨة هي المثال الحي والمحفوظ حول فرادة هذه الهندسة المعمارية
المعهد الوطني للتراث
في ذلك الوقت، كانت المدينة القديمة «دڨة» أكبر بكثير من مدينة تبرسق الحالية، بناءً على العديد من البقايا الرومانية التي تم العثور عليها بشكل ممتاز، أكبر هذه الآثار هي تلك الخاصة بنظام واسع من الصهاريج المحفورة في هضبة تهيمن على المدينة، ونصب لصهاريج عملاقة (موجودة مثلها بمدينة الكاف مثلا)، مبني على منصة صخرية تهيمن على الخزانات نفسها. استغل الرومان وجود تجمّعات المياه على حافة الجبل للتركيب على صهاريج هضبة شاسعة، والتي ستعمل على تزويد المدينة بالمياه.
اختاروا إنشاء مركز استعمارهم بالقرب من نبع وفير ونقي بشكل خاص. بالمعنى الدقيق للكلمة، فهي تشكل قلب المدينة الجديدة الجهاز الأساسي الذي يدور يضخُّ الحياة في جميع الأعضاء، وحولها يتم تجميع المباني الرئيسية للمدينة، وأغنى السكان.
هذه القراءة المعمارية والتاريخة تؤكد فرادة المدينة ونباهة الهندسة التي تحافظ على الطبيعة وتصنع التكامل بينها وبين الإنسان وظل المثال الهندسي لاِستعمال المياه دليلا قاطعا على إمكانية بناء مدن خضراء مستديرة.
[1] تصنيفات الموسوعية التونسية للمدن والآثار
[2] كتاب ذاكرة المدينة تبرسق حاتم الرياحي
[3] محمد حسين فنطر Carthage, la cité punique (قرطاج، المدينة البونية)، أليف وشركاؤها، تونس 1995
[4] Reiner Maria Rilke, Letter to Lou Andreas-Salomé, Rome, 3 November 1903. ترجمة فيليب جاكوت.