عن أدب الدكتاتور أو كيف واجهت الرواية شخصية ‘الكاوديسمو’ في أمريكا اللاتينية؟
❞الدكْتاتُور لا يَأْتي، إلا إذا اسْتدعيناه❝
– من رواية حفْلة التيس لـ “فارغاس يوسا”
❞ الأدبُ ليس مُجردَ هواية منعزلة لمن يكتبُ أو يقرأْ، ولكنه وسيلة للتأثير في الواقع❝
– أوغوستو روا باستوس أثناء كلمته بعد حصوله على جائزة سرفانتس في عام 1989
عَرفتْ بُلدان أمريكا اللاتينية على مَرّ تارِيخها، دِكتاتُوريات حَكمتْها من جميع المَشارب، هذا “الطاعون الاستبدادي”، حسب تعبير الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز، ساهم في بروز ما سُمّي برواية الديكتاتور Novela del dictador، التي ركْزت على ظاهرة Caudillismo. وهي مرحلة تاريخية جاءت مباشرة بعد حروب الاستقلال، عانت فيها الدول من ضعفًا مؤسسيًا، مكن بعض القادة السياسيين من الاستيلاء على السلطة والاستبداد.
يُشير ماركيز إلى أن الديكتاتور هو الشخصية الأسطورية الوحيدة التي أنتجتها تلك القارة، مستحضرًا أسماء مثل:
خوسيه غاسبار رودريغيز دي فرانسيا، في باراغواي (منذ 1813 حتى وفاته في 1840) الذي حظر التجارة والسفر أو حتى خدمة البريد بين باراجواي والعالم الخارجي.
الدكتاتور الثيوصوفي للسلفادور، ماكسيميليانو هيرنانديز مارتينيز (منذ 1935 إلى 1944) قام بتغطية جميع الإنارة العامة في البلاد بالورق الأحمر، لمكافحة وباء الحصبة، واخترع بندولًا يضعه على الطعام قبل تناوله، لمعرفة ما إذا كان غير مسموم.
النيكاراغوي أناستاسيو سوموزا غارسيا (منذ 1937 إلى 1956) كان لديه في فناء قصره، أقفاص يضع فيها معارضيه السياسيين إلى جانب حيواناته البرية.
الدكتاتور فرانسوا دوفالييه في هايتي، أصدر قرارًا أثناء فترة حكمه (منذ 1957 حتى 1971) بقتل كل الكلاب السوداء لاعتقاده أن واحدًا من خصومه السياسيين تحول إلى كلبٍ أسودَ. كما منع عمل منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك فرق الكشافة الخاصة بالصبية والفتيان، معتقدا أنها تهدد حكمه.
❞ ليس هناك أمل في الحرية، يا أصدقاء، نحن محكومون بتحمل هذا إلى ما شاء. المواطنون الذين يتطلعون إلى سعادة الوطن بعيدون جدا: بعضهم يتسولون الصدقة في أرض غريبة، والآخرون يتعفنون في مقابر جماعية. يوما ما ستنغلق الشوارع من الرعب، ولن تعطي الأشجار ثمارا كالسابق، الذرة لن تغذينا، والماء لن يروينا، وقريبا يأتي زلزال ليسحق كل شيء فليأت، لأننا شعب ملعون. تصرخ فينا أصوات السماء مع الرعود: «أخساء نجسون شركاء الجور على جدران السجون ترك مئات الرجال آثار أدمغتهم التي فجرتها رصاصات المجرمين مازال رخام القصور مبلّلا بدماء الأبرياء، أين نولي وجوهنا لنرى الحرية؟❝
(رواية السيد الرئيس لـ ميغيل أنخيل أستورياس)
توضح الناقدة العراقية نادية هناوي منذ البداية، أن رواية الديكتاتور ليست هي نفسها الرواية السياسية، فالأولى تُعنى أساسًا بِبسيْكلوجية (نَفسية) الحاكم، لا بنقل الصراعات السياسية والاجتماعية. ومع ذلك يمكننا العودة إلى أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر، لنجد تمهيداً لظهور شخصية الدكتاتور، انطلاقا من رواية «فاكوندو» (1845) لفاوستينو سارمينتو، التي أرادها أن تكون نصَّا احتجاجيًا ضد نظام خوان مانويل روسا حاكم الأرجنتين من 1835 إلى سنة 1852. وقد تلتها في نفس الفترة أيضًا، رواية «أماليا» (1851) لخوسيه مارمول، وفيها قصة حب رومانسية، يتهم بطلاها بالتآمر على النظام وتجري مطاردتهما إِلى أن يصرعهما زبانية الدّكتاتور روسا.
ثم سننتظر مع بدايات القرن العشرين حتى تظهر رواية «الطّاغية بانديراس» (1926) لرامون ديل فالي انكلان، التي تروي حكاية اشتباه الطاغية بانديراس، بتآمر الكولونيل دوميثيانو ديلا غندرا ضده، وحين يكتشف خطأً بسيطاً ارتكبه الأخير يُزوَّد الطاغية بالذريعة التي يحتاجها ليعتقله، فيصدر أمراً سرياً بإيقافه، لكن بائعة هوى تستطيع قراءة الأفكار تعرف بهذا، فتحذّر الكولونيل. وفي خضمّ الاحتفالات السنوية في البلاد يفرّ لينضمّ إلى المتمرّدين على حكم الطاغية الذي سيسقط في النهاية.
أخيرا سنصل إلى رواية «السيد الرئيس» لميغيل أنخيل أستورياس، التي كتبها في فترة الثلاثينات، بينما كان يُقيم في منفاه الاختياري في باريس. وعندما عاد إلى بلاده بعد الكساد الكبير، كان عمله غير قابل للنشر عمليّاً، لأن الديكتاتور الذي تصف الرواية عهده، كان قد أُسقط لمصلحة ديكتاتور جديد، أشدّ قسوةً وقمعاً من سلفه. هكذا بقيت باكورة أعماله دون نشر حتى تمت طباعتها في نسخة رديئة مليئة بالأخطاء المطبعيّة في المكسيك عام 1946، ولم تظهر منها طبعة مصحّحة نهائيّة حتى عام 1952. كما تأخر صدورها بالأنكليزية -في ترجمة باهتة- ليُعاد الاشتغال عليها من جديد عامَ 1963، ويحْصل مؤلفها على جائزة نوبل للآداب كأوّل روائي لاتيني يفوز بها سنة 1967.
تجري أحداث الرواية على مدار أسبوع واحد، عندما يقتل متسوّل شبه مجنون عقيداً في الجيش خَطَأً، فيُلقي الرئيس باللوم على الجنرال، لسبب آخر، هو الشكّ في ولائه السياسي له، وهكذا نتابع المكائد المترابطة التي تؤدي بالعديد من كبار المسؤولين الحكوميين إلى السجن أو التعذيب أو الموت أو فقدان الحظوة.
يجعلنا هذا العمل نتأمّل تشوّه السلطة السياسية في دولة خاضعة لنظام رهيب، بمسؤولين خانعين وشعب مرعوب، ينتظر كل قرار أو أمنية تطرأ على السيد الرئيس، فالصوت الوحيد هو صوته، والقانون ما يقرّره هو ويستسيغه، لأن الشعار المرفوع في مملكته هو «أنا أفكر بعقل الرئيس، إذن أنا موجود» في إشارة إلى شخصية الحاكم الغواتيمالي مانويل استرادا كابريرا، الذي هيمن على السلطة لمدة اثنين وعشرين عامًا (1898- 1920).
❞ يؤسّس الحاكمُ سلطته على جهل الناس وسذاجتهم. فأساسُ القوة يكمنُ في الضعف. ويا له من أساسٍ! ❝
– من رواية أنا الأعلى لـ روا باستوس
رغم ظهور أعمال لاحقة مثل رواية «بوروندون العظيم- بورندا قد مات» لخورخي ثالاميا (1952) أو «قاع الزجاج» لفرانسيسكو أيالا (1962) أو «حفل الملك آكاب» لانريكي لافوركاد (1964) وغيرها… فإن الروايات التي تناولت شخصية الدكتاتور لم تلقَ الانتشار الواسع (باستثناء رواية السيد الرئيس) كالذي ستجده مع جيل البوم الأدبي El-Boom. إذ تُعد فترة السبعينات حسب الناقدة شارون كيفي أجالدي، علامة فارقة في تطور أدب الدكتاتور، من خلال صفتين مجدّدتين على الأقل، أولها تغير وجهة النظر تجاه الديكتاتور. ففي معظم الأعمال السابقة كان غالبا ما يتمّ تقسيم شخصيات الرواية إلى فئتين، قوى الشرّ (أتباع الدكتاتور) وقوى الخير (الثوار الذين يقفون ضده) بالإضافة إلى ذلك لم تكن شخصية المستبدّ محورية في العمل، وقد اختلف الأمر مع روايات جيل البوم، التي قدمت شخصية الدكتاتور بشكل أكثر مركزيةً وموضوعيةً. أما الصفة الثانية المجدّدة فتكمن في طبيعة اللغة والأسلوب، الذي تأثر إلى حدّ كبير بالواقعية السحرية أساسًا، وتقنيات الحداثة الغربية كتيار الوعي واستخدام المونولوغات وتعدد الأصوات…
❞لا يجدُ البؤسُ ما يتسترُ به خيراً من إذكاء جذوة التعصّب الجمعي❝
من رواية أنا الأعلى لـ روا باستوس
كان أهم كتاب أمريكا اللاتينية، في تلك الفترة، متفرقين في أنحاء أوروبا. بعد اختيارهم منْفاهم الطوعي، حيث أقام كورتاثار وكاربنتييه في باريس، ويوسا في لندن وماركيز في برشلونة وفوينتس في فلورنسا وروا باستوس في الأرجنتين… لكن هذا لم يمنعهم من التواصل في ما بينهم، وإقامة تحالفٍ نشيطٍ.
لذلك لم تظهر الرّوايات التي سنتحدث عنها لاحقًا، من فراغ، بل كان مدبّرًا لها أن تُكتب وتُنشر في ذات الفترة، وهذا ما يرويه لنا الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس “في خريف عام 1967، صادف أنني كنت في لندن في نفس الوقت الذي كان فيه الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا. لقد قرأنا مؤخرًا، بإعجاب، وبلمسة من الحسد كتاب «دم الوطنية – Patriotic Gore: صور قلمية عن الحرب الأهلية الأمريكية» لادموند ويلسون. وبينما كنا نجلس في إحدى الحانات في هامبستيد، اعتقدنا أنها ستكون فكرة جيدة لو جسدناها على طغاة أمريكا اللاتينية.”
بعد شهر من هذا اللقاء، سنعرف أن الروائي المكسيكي قد مضى قُدمًا بمقترحه، راسمًا ملامحه ومحدّدًا عناصره، كما سنقرأ في رسالته إلى يوسا بتاريخ 11 ماي «لقد كنت أفكر منذ أن تحدثنا آنذاك عن كتاب إدموند ويلسون، والفكرة التي خطرت لنا بتأليف كتاب جماعي في السياق ذاته. أردت أن أعلمك بأنني تحدثت الليلة الماضية مع خورخي ادواردز واقترحت عليه ما يلي: مجلد يمكن أن يحمل عنوان «البطريركيات» أو «آباء الأوطان» أو شيء من هذا القبيل… كل منا يكتب رواية قصيرة لا تتجاوز الخمسين صفحةً، تكون مكرسةً لطاغية وطنه. يمكن على سبيل المثال أن يقوم ادواردز بالكتابة عن خوسيه مانويل بلماسيدا، كورتازار عن دي روساس، بارغاس يوسا عن مانويل أودريا، خوسيه دونوسو عن ماريانو ميلجاريخو، روا باستوس عن خوسيه غاسبار رودريغيز دي فرانسيا، غارسيا ماركيز عن لوريانو غوميز، كاربنتييه عن فولغينسيو باتيستا، أنا عن أنطونيو لوبيز دي سانتا آنا، وأنت عن أوغستو ليقويا أو أي زعيم بيروفي آخر. بالنسبة إلى خورخي أوبكو كاستانيدا، يمكن الاستنجاد بـ أستورياس، أما الدكتاتور ماريانو ميلجاريجو، فالحقيقة لا أعرف بوليفيًا قادرًا عليه، شأنه في ذلك شأن الثيوصوفي السلفادوري مارتينيز”.
سيوُاصل فوينتس إشاعة فكرته، متوجهًا إلى الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار في رسالة بتاريخ 26 ماي “… بإمكانك الكتابة عن روساس أو خوان بيرون أو ماريا إيفا دوارتي دي بيرون، الخيارات عديدة في لابلاتا La Plata (أي الأرجنتين)، سيكون هذا العمل الجماعي مثلما يقول ماريو “بمثابة صفعة هائلة على وجه كل صغار الميكافيليين في أمريكا الجنوبية الذين عقدوا العزم على تقسيمنا وبث الفتنة فيما بيننا”.
من الناحية الأخرى يرد الكاتب الأرجنتيني في رسالة بتاريخ 2 جوان “أجمل ما في الفكرة هي أنها ستجمعنا جميعا في مجلد واحد، لكنني لا أهتم بـ”مكيافيلليي أمريكا الجنوبية” الذي يلمح إليهم ماريو، بل أعتقد أن منحهم أدنى قدر من العدوان هو بمثابة تقديم خدمة لهم لا يجرؤوا هم أنفسهم على الحلم بها.”
فيما بدا ماركيز أكثر تحمسا بمقترح فوينتس، وهذا ما نستشفه من رسالته المكتوبة بتاريخ 5 جوان «الفكرة جيدة، وعلينا أن نمضي فيها قُدمًا، مرشحي هو الجنرال توماس سيبريانو دي موسكيرا، وهو أرستقراطي، وضابط بوليفار السابق، تولى الرئاسة أربع مرات. بالمناسبة، لديه الكثير من التشابه مع سانتا آنا الخاص بك. كان دون توماس مجنونا تماما، ومع ذلك كان رجلا عظيما: أول ليبرالي وقف في طريق الحمى الدكتاتورية ثم انتهى به الأمر ليصبح هو ذاته دكتاتورا قاسيًا”
سيكمل صاحب رائعة «موت أرتيميو كروث» محادثاته مع اثني عشر كاتبا من بينهم آليخو، أوغستو، خورخي أمادو، ميغيل أوتيرو سيلفا، خوان بوش، خوسيه دونوسو وآخرين…
في 5 جويلية، يتواصل فوينتيس مع غابو ويوسا عن طريق رسائل متعلقة بالجديد في ما يخص المتعاونين والطغاة المنتخبين. ومن كلامه يتضح أن هناك حراكاً كبيراً «لا أريد أن يمرّ يوم دون أن أطلعكم على آخر المستجدات في مشروعنا، انضم خوليو بنص من عشرين صفحة يشير إلى جثة إيفا بيرون، كاربنتييه يهذي بمقترحه، بعدما اختار الكتابة عن جيراردو ماتشادو، في غاليمار أخبروني أنه يتصل كل يوم للحديث عن الفكرة والترويج لها هناك؛ وكان يتصل بي كل يومين أو ثلاثة أيام للتعبير عن سعادته، أما روا باستوس وبحماس مماثل التزم بالكتابة عن ديكتاتور دي فرانسيا. وميغيل أوتيرو سيلفا اختار شخصية خوان فيسنتي غوميز. إذً، المسألة جارية عمليّا. اتفق خوليو وآليخو على أن تتمّ الطبعة في المكسيك، لأن إسبانيا أو الأرجنتين خطيرتان للغاية بالنسبة إلى كتب من هذا النوع. أقترحُ أيضًا أن يكُون المحرّر مورتيز، هو دون شك الأكثر جدية والأفضل تنظيمًا في المكسيك”.
أخيرًا، يتحدث عن المواعيد النهائية لكتابة الفصول (نصف عام) ويحدد المحادثات مع الناشر غاليمار ووكيله الأدبي بهدف سلسلة من الترجمات. لكن في النهاية لن ينجح المشروع كما خطط له الديبلوماسي المكسيكي، لأنه كان من المستحيل تنسيق جداول أعمال المؤلفين المختلفين، رغم مواصلة بعضهم في كتابة روايتهم الخاصة، وهم أليخو كاربنتييه، أوغستو روا باستوس وغابرييل غارسيا ماركيز.
❞ واستمر المستشار الأوّل يفكّر في خطابه الواجب عليه أن يلقيه، لكنّ مخيّلته لم تسعفه. كلام. كلام. كلام. هو الكلام نفسه دائماً. فأين الحريّة والسجون ممتلئة بالسجناء السياسيين؟ ❝ – رواية أسلوب المنهج لـ أليخو كاربنتييه
الأول نُشرت له عامَ 1974، رواية «أسلوب المنهج» وهو عنوان يُحاكي بطريقة ساخرة كتاب ديكارت: “خطاب المنهج”، فإذا ما كان المنهج الديكارتي هو العقل، فإن “المنهج” في هذه الرّواية هو أسلوب الدّولة التّسلّطي، التي تُخالف فيه كل عقلانية، وهذا ما يُشار إليه في إحدى فقرات الرواية “إن عليه مطاردة الجنرال هوفمان في تلك المسالك، محاصرته، تطويقه، عزله، ثم وضعه على جدار دير أو كنيسة أو مقبرة، وقتله، أطلقوا النار، ما من سبيل آخر. إنها قواعد اللعبة، إنه أسلوب المنهج”.
لم يعلن الرّوائي الكوبي عن اسم الدكتاتور الذي تناوله في روايته، واكتفى بتحديده عن طريق منصبه “المستشار الأوّل” فيما يقول الدارسون أن شخصية المستشار مأخوذة من الزعيم جيراردو ماتشادو، الذي حكم كوبا في الفترة الممتدة من عام 1925 إلى عام 1933.
تبدأ الرواية في باريس، عندما يستيقظ المستشار الأول مخمورا في منزله أمام قوس النصر، بعد حفلة صاخبة في الليلة الماضية، ليتلقى خبرا من سفيره تشولو ميندوزا، حاملاً أنباء حدوث انتفاضة مسلحة، ومن هنا نتابع أسلوب الدكتاتور في إخماد الانتفاضة.
❞ أنا لا أكتبُ التاريخ. بل أصنعُه. يمكنني إعادة كتابته وفق هواي ومزاجي، أعدّله، أعزّزه، أُثريه، أُغنيه، معنىً وحقيقةً❝
من رواية أنا الأعلى لـ روا باستوس
أما الثاني فنُشرت له في السنة نفسها، رواية «أنا الأعلى» محيلاً إلى شخصية مرجعية، هي شخصية الدكتاتور خوزي رودريغز دي فرانسيا، حاكم الباراغواي طوال ستّة وعشرين عاما، والذي أطلق على نفسه لقب “الأعلى”.
يُفتتح السّرد بالعثور على منشور عُلِّق على باب الكاتدرائية، وفيه على لسان الديكتاتور نفسه إيعازٌ للشعب بتعليق رأسه بعد موته على رمحٍ في الساحة العامة، ودعوة إلى قتل كل معاونيه شنقًا ودفن جثثهم دون صليب أو أي علامة تذكر أسماءهم. ثم تدور فصول الرواية اللاحقة حول مسعى الديكتاتور الغاضب إلى القبض على مرتكبي هذه المؤامرة.
يتميّز هذا العمل برؤيةٍ أكثر واقعية من المعتاد في الأعمال الأدبية المعنية بالديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، حيث تورد بياناتٍ موثقّة للقمع والانتهاكات دون أي أدنى تحامل أو مبالغة، كما تُعطى الفرصة والمساحة لسماع صوت الدكتاتور فرانسيا يتحدث عن تاريخ حكمه عبر تدوينات قام بكتابتها في مفكّرته الخاصة.
“إنها نظرة تأمّل إلى السّلطة المطلقة، ولحظة تدبّرٍ عاطفي وجدلي حول الصورة الإنسانيّة التي رُسمت لفرانسيا بكثير من الغموض والرهبة” هذا ما قاله روا باستوس عن روايته التي أخذت منه ست سنوات من الاشتغال، وحصل بفضلها على جائزة سرفانتس سنة 1989، كما احتفى بها القراء عبر تنظيم ماراتون قرائي في كلّ من الباراغواي وإسبانيا.
❞ نحن والأشياء لسنا مجبورين لكي ندوم أبديًّا❝
من رواية خريف البطريرك لـ غابرييل غارسيا ماركيز
الرواية الثالثة والأخيرة التي نُشرت سنة 1975 هي رواية «خريف البطريرك» – وصفها غابو ب “قصيدة عن عزلة السلطة والوحدة المأساوية للطاغية”، فخلال عطلة نهاية الأسبوع، دخلت النسور إلى القصر الرئاسي عن طريق النّقر عبر نوافذ الشرفة، وأثار رفرفة أجنحتها الوقت الراكد في الداخل، بينما زحف مواطنو دولة كاريبية لم يُذكر اسمها عبر الممرات المتربة بحثًا عن قائدهم، لكنهم وجدوا جثّة متعفنة مرّ عليها زمن على وفاتها – فلا نكاد أن نتعرف عليها، لذلك لم يتصور أحد منهم أن الرجل الملقى ميتًا على الأرض يمكن أن يكون هو ذاته جنرال الكون.
يقوم ماركيز هنا بإطلاق العنان لحسّه الكاريكاتوري، راسما صورة سريالية محمومة للجنرال الذي عمر في السّلطة طويلاً إلى درجة أن شعبه لم يعد يؤمن بفنائه. وهكذا تُروى سيرة البطريرك الذي عاش ما بين 107 إلى 232 عاما، ومن خلال ستة فصول، يسترجع غابرييل غارسيا ماركيز، عبر رواته المتداخلين، حياة الدكتاتور، الذي أعلن الحرب على كل منافسيه: أطفالا ومعارضين، رجال دين ومتمرّدين، هنود وهندوسيين، عربا ومضطهدين آخرين… غير أنه في النّهاية يجد نفسه وجهاً لوجه مع الموت، في صفحات رائعة يكثّف فيها ماركيز الوجه الآخر للحياة، الحياة التي لم يكن البطريرك يراها إلا من القفا، قبل أن ينتهي زمن الأبديّة الهائل، وقبل أن تدقّ أجراس الحبور وتعلو معزوفات التّحرّر.
يشير الرّوائي الكولومبي في حوار له أن الرجل الذي كان يدور في ذهنه، هو الدكتاتور الفنزويلي خوان فيسنتي غوميز. ولكن بطل الرواية هنا هو مزيج من قادة عدّة بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، غوستافو روخاس بينيلا من كولومبيا، ودوفالييه من هايتي، وماكسيميليانو هيرنانديز مارتينيز من السلفادور، وماركوس بيريز خيمينيز، وخوان بيرون وإيفا دوارتي دي بيرون من الأرجنتين، وجوزيف ستالين، وفرانسيسكو فرانكو من إسبانيا… أما بمجرد قراءة الرواية، يصبح من الواضح جدًا أن هذه القضية ثانوية في الرواية. فما ينويه ماركيز هو بناء نموذج موحّد يجسد القوة المطلقة للسلطة أينما حلت.
❞ردّا على سؤال: ما هو أعظم أمل لك في القرن الحادي والعشرين؟»، أجاب ماريو فارغاس يوسا: لتختفي ديكتاتوريات الكوكب!❝
– ماريو بارغاس يوسا
يمكن إضافة رواية «حفلة التيس» التي نشرت بعد ربع قرن من هذا المشروع المجهض، إلى القائمة، حيث يبدو أن ماريو كان حريصاً على تنفيذ العقد القديم الموقع في إحدى حانات لندن. وعلى غرار أوغستو روا باستوس، استوحى الروائي البيروفي عمله من حياة الدكتاتور الدومنيكاني رافائيل تروخيو أو “الجنراليسنمو”، كما كان يُطلق عليه عند فترة حكمه من عام 1930 إلى تاريخ اغتياله في 30 ماي 1961.
لقد اهتمّ يوسا بهذه الشخصية وقرّر الكتابة عنها، أثناء فترة وجوده في الدومينيكان التي مكث فيها قرابة ثمانية شهور (سنة 1975) بمناسبة تصوير فيلم مأخوذ عن روايته “بانتاليون والزائرات”. هناك، سمع شهادات مروّعة عن حياة تروخيو – من بينها، اغتصابه للفتيات القاصرات، كان الأهالي يقدمنهنّ إليه مثلما كانت تقدم القرابين إلى الآلهة.
تتابع الرواية فترة ثلاثين عاماً من حكم الدكتاتورية في الدومينيكان، عبر ثلاثة مسارات، الأول نتعرف فيه عن حكاية محامية أميركية من أصل دومينيكاني تدعى أورانيا كابرال، غادرت وطنها منذ أن كانت فتاة في الرّابعةَ عشْرةَ، بسبب الأب، الذي كان أحد كبار رجال المخلصين لتروخيو. وهكذا تعود أورانيا كي تلتقي بوالدها القابع في المستشفى بسبب سكتة دماغية، حتى تحاسبه على ما فعله بها وهي طفلة.
أما المسار الثاني فيتعلق بسيرة الدكتاتور وطبيعة حكمه ونزواته وعلاقاته، بينما يرتبط المسار الثالث بوقائع عملية اغتياله.
على هذا النحو، وبقدرته الروائية الخارقة التي تضعه في الصفّ الأول بين كبار كتّاب جيله، تمكّن يوسّا من أن يربط حكاية الديكتاتور بحكاية المحامية النيويوركية، أي أن يربط حكاية عائلة بحكاية وطن. فالرواية مبنيّة على هذه الاستعارة المزدوجة: استعارة الاغتصاب واستعارة التواطؤ.
❞الرواية ستنقذ الديمقراطية وإلا ستدفن معها وتختفي❝
– ماريو بارغاس يوسا
❞ كنتُ أؤمن بقوّة الرواية وقدرتها على إحداث تحوّل اجتماعي❝
– أوغستو روا باستوس
قُرئت الرّوايات التي تناولت الدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية بشكلٍ واسعٍ في اللّغة العربيّة، وطالما شعر قارئها بأنّها تصوير لما يحدث في بلادهم، إلاّ أنه لنا أن نتساءل عن غياب مثل هذه الأعمال في المدوّنة العربية، والحال أن تاريخنا زاخر بشخصيات ديكتاتورية من كل حدب وصوب.
يُرجّح الكاتب الجزائري حميد عبد القادر ذلك إلى عدة أسباب، لعل من بينها أن الروائي العربي، التقدّمي واليساري بالأخصّ- عُرِف بمساندته للزعيم العسكري/ الديكتاتوري العربي، نظراً إلى كون هذا الزعيم الذي تحوَّل إلى ديكتاتور كان جزءاً من حركية التاريخ الوطني العربي في محاربته للاستعمار والإمبريالية، على خلاف روائيّي أمريكا اللاتينية الذي عارضوا الديكتاتور منذ بدء نظامه، نظراً إلى التواطؤ والتماهي الصارخ بين الأنظمة الديكتاتورية، من التشيلي إلى كوبا مروراً بالأرجنتين مع الإمبريالية العالمية ممثَّلة في الولايات المتحدة الأميركية، وشركات “الموز” التي حطّت رحالها في هذه البلدان لاستغلال الخيرات المحلّيّة.
أما السبب الثاني فيكمن في هجرة كثير من روائيّي أمريكا اللاتينية إلى أوروبا، فاللافت للانتباه، أن غالبية عمالقة الرواية اللاتينية – الأميركية وكبار كتّابها، عاشوا غالباً في المنافي الطّوعية، التي سمحت لهم بحرّيّة الكتابة والنشر، ومثل هذه الهجرة المحرَّرة من قيود التسلُّط، لم يلجأ إليها الروائيون العرب اختيارا، إذ ظلت الغالبية منهم في أوطانها، مما نتج عنه بروز نوع أدبيّ أخر هو “أدب السجون”.