صُنع الله إبراهيم الـمتمرّد الـمولع بالأرشيف
لطالـما اِرتبطَ اسمُ صُنع الله إبراهيم (1937) في سياق الحداثة الأدبيّة الـمصريّة والعربيّة بإثارة الجدل في تجربته الروائية، كما في مواقِفه السّياسيّة اليساريّة اللاّذِعة، معبِّرا عن وعيٍ سياسيّ وتاريخيّ عميق وتقدّمي. فقدْ شكّلت التّجربة السّياسيّة مادّة جوهريّة في رواياته، منذُ “تلك الرّائحة” التي نشرها عقِب خروجه من السّجن سنة 1966. أمّا في المجال الأدبـي، فقد اِعتمد إبراهيم مثل العديد من أبناءِ جيلِه مضاميرَ جديدة للقول والـحكْي، مدفُوعًا في ذلك بالحاجةِ إلى التّغيير في الصّيغ الأدبيّة والقطع مع الكلاسيكيّات السّائدة. ولعلّ هذا الجَدل، بدأ منذُ نزوله إلى العالم، في مُفارقة طريفة، وتسميته بـ”صُنع الله”، ليتساءل الجميع لِمَ سُمّي هو بالذّات هكذا، فيما الجميع، من منظور الدّين، هم صنِيعةُ الله.
جيل السّتّينات:
ينتمِي صنع الله إبراهيم إلى جِيلِ السّتينات في مصر، الذي حاول تثوِير الكِتابة السّرديّة، بالتمرّد على أشكالِ السّرد الكلاسيكيّة (الواقعيّة تخصيصًا) والتي مثّلها بشكلٍ جليّ وكبير نجيب محفوظ. فقد حاول إبراهيم منذُ روايته الأولى “تلك الرائحة” التي استلهمها من تجربته السّجنيّة، البحث عن أساليب جديدة في الكتابة تنهلُ آفاق الحداثة السرديّة الغربيّة أساسا. وتتجلّى هذه الأساليب في اِعتمادِ أنواعٍ أدبيّة لم تكن معهودةً في فنِّ الرواية وتوظيفها، وهو ما أقدم على تجريبه معظم المنتمين لهذا الجِيل الـمُجدّد صاحب “الحساسيّة الجديدة” على رأي “إدوار الخرّاط”. فمثلا نعثُرُ في رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطاني على اِستلهاماتٍ من السّيرة الإخباريّة العربيّة في القرون الوسطى، وفي روايات مثل “اللجنة” و”نجمة أغسطس” لصنع الله إبراهيم وحتّى في “يحدث في مصر الآن” ليوسف القعيد على تقنية الريبورتاج أو التّحقيق الصّحفي مع توظيف أرشيفٍ من “الأضابير” والوثائق الرّسميّة. وبالاطّلاع على رواية “من التاريخ السّرّي لنعمان عبد الحافظ” لـمحمد مُستجاب نكتشفُ تسرِيدًا في قالبِ بحثٍ علميّ يبدو جادًّا ظاهريّا، لكنّ هذه الجدّية مُزيّفة وزيفُها مقصودٌ لإنارةِ الحكاية وتتّبع حبكتِها. يمكننا أن نخلُصَ إذن إلى أنّ هذا الجِيل قد اتّبع سردا تجريبيًّا في الشّكلِ والمضمون، ولعلّ الظّروف التاريخيّة والسياسيّة المتقلّبة التي عاشتها مصر في السّتينات كانت تفرض خطابا جديدايقطعُ مع الكلاسيكيّة السّائدة، خطابا يتّبع أنماط قولٍ جديدة ومغايرة، ظاهرها تفجير إمكاناتٍ جديدة للسّرد وباطِنها تعرية زيف الخطاب الرّسـمي والسّخرية منه.
وتعدّ إرهاصات الوضع السّياسي الـمصري من أهمّ شواغل جيل السّتينات عموما وأدب صنع الله إبراهيم خصوصا، فقد عاش هؤلاء الأدباء بأنفسهم تجربة السّجن، وانعكست تجربتهم تلك في أعمالهم الأدبيّة. على غرار رواية تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم التي اِرتبطت بشكلٍ مباشرٍ بالوضع السّياسي في مصر واِنهيار الإيديولوجيات التي كانت تروّج الوهم والزّيف وقد بدأت آنذاك تتلاشى، ومن ضمنِها نذكر الـميلَ إلى “تقديس” الفرد الواحد، ويُعدُّ ستالين على رأس القائمة، وقد تنزّل معظم القادة العرب في تلك الحِقبة وكأنّهم استنساخٌ لشخصية ستالين وأوّلهم جمال عبد الناصر. تلك الرائحة إذن، هي اِنْتقادٌ للوضع المصريّ في السّتينات، والتجربة الروحية والوجوديّة الحائرة للبطل المجهول الاسم لرواية “تلك الرائحة” هي انعكاسٌ للأزمة السّياسيّة والقيميّة للتاريخ المصري وللعالم. لكنّنا لا يمكننا أن نحصِر أعمال جيل السّتّينات (روايات صنع الله إبراهيم خصوصا) في استعراض نتائج مرحلة عبد الناصر، فقد تجاوزوا مواقفهم وتجاربهم الشّخصيّة، لإنجاز رواياتٍ تحاول التآلُف مع الواقع الجديد القاسي والمثقل بالحقيقة. أي أنّنا إزاء تقييمٍ موضوعيٍّ للحياة المصريّة الجديدة وسياقها التاريخي.
تقنياتٌ ما بعد حداثيّة:
يتميّز سردُ صنع الله إبراهيم بالكثافة والبساطة الظّاهرة نسبيّا في ما يسمّى بالسّهل الـممتنع، حيث تتنزّلُ جُملهُ قصيرة ومـجرّدة من الاستعراض البلاغيّ و”الـمُحسِّنات البيانيّة من تشبيه ومجازات واستعارات”. إذْ لا نكادُ نظفرُ بعبارات إثراء أو تراكيب وصفيّة تتخلّل السّرد، وهذا خيارٌ جماليٌّ لغويّ واعٍ ومتماشٍ وهذا الخيار الجمالي اللغوي ينبثق عن وعي ينسجمُ في جوهره مع تيّار الحداثة (أو ما بعد الحداثة) الذي اختار إبراهيم الكتابةَ ضمن سياقاته. ونجد هذا الأُسلوب الذي سيظلّ يرافقه في معظمِ أعماله، في روايته الأولى “تلك الرّائحة”، النّاقِلة لمونولوغ داخلي واضح ومباشر، معبِّر عن عزلةٍ جافّة وقاسية لشخصيّةٍ خرجت لتوِّها من السّجن.
أمّا مُقوّم الزّمن، فالكاتب يكسِر تسلسُلَه الكلاسيكيّ أي الكرونولوجي الخطّي، ويستعيضُ عنه الكاتب ببنيةٍ روائية مُـجزّأة ودائريّة، وهو ما نعثر عليهِ مثلاً في رواية “ذات” التي تنزّلت مشوّشة زمنيّا، ربّما لإبراز الفوضى التي يتخبّط فيها الواقع المصري في تلك الحِقبة. ولعلّ هذا التشظّي الزمنيّ يعكس تشظّي الوعي الفردي نفسه في “ذات” الشخصيّات وضياعهم وسط فوضى واقع يفرض نفسه عليهم فيجدون أنفسهم في حالةٍ من تِيهِ الوعي والبحث المطّرد عن “الذّات”. وأمّا بالنّسبة إلى عنصر المكان فإنّ القاهرة هي الفضاء الرّوائي الرّئيس في أعمالِ إبراهيم، وهي شبِيهةٌ بفضاءٍ ديستوبي رغم واقعيّتها، فنرى القاهرة الـملوّثة الـمزدحِمة، بـمؤسّساتـها ذات الـمباني المتهالِكة، وهذا التّصوير السّوداوي للمدينة هو مرآةٌ للانهيار السّياسي للبلاد والاستلاب الروحي والذّاتي لـمجتمع يتخبّط في حياةٍ يوميّة مضنية. تتجوّلُ شخصيّاته إذن في هذه الفضاءات الكالِحة كانعكاسٍ لشعور الاغتراب وفقدان المعنى. ومن علاماتِ حداثةِ المتن في أعمال صنع الله إبراهيم الروائية هو اتّباع تقنية الأرشيف. إذ يوظِّفُ مقاطع من جرائد ومجلاّت تتناول أحداثا تاريخيّة وتصريحاتٍ لسياسيّين وحتّى إعلانات لمؤسّسات مصرية تتوجّه بها إلى المواطنين وإعلاناتٍ إشهاريّة وغيرها. وذلك في إطار السّياق التّاريخي الذي يكتُبُ فيه. وتتنزّلُ هذه المقاطع الأرشيفيّة شكْلاً في أُطرٍ مربّعة داخل المتن السّرديّ، وهو نمطٌ من الكتابة لا نعثر عليهِ إلاّ نادِرا وبطريقة مطّردة في رواياتِ إبراهيم لاسيّما “اللّجنة” و”ذات”.إذْ يُعرف الكاتب بغرامِه باِفتتانه الشّديد بالأرشيف، إذ يحرص على جمع الصّحف والمجلاّت بهوسٍ كبير، ليُنقِّبَ داخلها في ما بعد بحثا عن موادّ يوظِّفها في رواياته. ومن الطّرائف التي يرويها إبراهيم أنّ شقّته كانت تغصّ بالأرشيف إلى درجةِ ألاّ أحد يجد مكانا يمرّ منه، وسط تجاهله التّامّ لذلك، وانغماسه الشّديد في عمله، ممّا حدا بزوجته في يوم من الأيّام إلى أن تطلب منه الطّلاق.
ومن التّيماتِ الجوهريّة في سرد إبراهيم، على غرار الانكسارات السّياسيّة وتأثيرات التحوّلات السّياسيّة، نذكر الجسد. إذ الذي يحضر أوّلاً ببعده الإيروسي وأحيانا البورنوغرافي الذي يحمِلُه إبراهيم إلى الأطراف إذ ويوظِّفه بمبالغة شديدة (رواية الجليد مثلا). كما يحضر في مرتبة ثانية كموضوعٍ للانتهاكِ من قبل السّلطة (التعذيب مثلا) وفي رواية “تلك الرائحة” نلاحظ زيارات متكرّرة للشّخصيّة إلى المشرحة وعلاقته التي تنشأ مع الموت. وفي “اللّجنة” تتعرّض الشّخصيّة الرّئيسيّة إلى فحصٍ جسديٍّ قاسٍ ومُهينٍ، ليتحوّل الجسد إلى مادّةٍ للتحكّم من قبل السّلطة أمام عجزٍ تامّ للفرد عن استعادة كرامته وتحكّمه بجسده وامتلاكه.
وكما ذكرنا سابِقا حول اِنتماء إبراهيم إلى تيّار “الحساسيّة الجديدة” فإنّ تقنياته تتقاطع مع تيّارات ما بعد الحداثة في الأدب الغربي، فنقرأ استلهاماتٍ من “كافكا” و”أورويل” و”بورخيس”، لاسيّما في تمظهرات العبثيّة السّردية المتجلّية في معظم أعماله تقريبا، بالإضافة إلى التخييل السياسي – الديستوبي (جورج أورويل) والعبث البيروقراطي الذي يذكّرنا بـ”كافكا”.
كتابة “التغريب”:
انشغل صنع الله إبراهيم بتِيمةٍ انشغل بها مُجايلوه من روائيّي الحداثة وهي العلاقة بين الشّرق والغرب. ولكن هل كتب هذه العلاقة بالطريقة نفسها التي كتبها بها غيره، أي داخل مضمار نسق الصّراع الثّقافيّ؟ ففي روايته “أمريكانلي” (وتعني الكلمة المتشبّه بالأمريكيّين) الصّادرة في مصر سنة 2003، يكتب عن رحلةِ أستاذ تاريخ مصريٍّ دُعيَ كأُستاذٍ زائرٍ في جامعة بكاليفورنيا لستّة أشهر سنة 1998. وهي تجربة خاضها الكاتب نفسه في كاليفورنيا، ممّا يجعلنا إزاءَ سيرةٍ ذاتيّة متخيّلة فأستاذ التاريخ شكري، هو بمثابةِ القرين الأدبي للكاتب في “أمريكانلي”. يستلهم إبراهيم ذكرياته الشخصية والطرائف التي عاشها ويحمِّلها لشخصيته الرئيسية ويعطيه حتّى نسبه العائلي والسّمات الأساسية لهويّته وحتّى ملامحه الجسديّة. يعرّي صنع الله إبراهيم العديد من حقائق المجتمعِ الأمريكيٍّ من منظورِ إنسانٍ مهمّشٍ في مجتمعه المصريّ رغم تفوّقه الفكريّ أو بسبب هذا التفوّق نفسه. وعوض أن يعبّر عن نوعٍ من الغربة أو الاغتراب أو الصّراع فإنّه يأخذنا في رحلةٍ وجوديّة لاكتشافِ حقيقةِ ذاته وسط هذا المجتمع الذي تآلفَ معه رغم عدم نشأتِه في تربته البعيدة. فالأستاذ يعبّر عن حاجةٍ فكريّةٍ متواصلة ومتأصّلة حدّ الهوس لفهم البلد الذي يعيش فيه بكلّ ما تحمله أمريكا المعاصرة من تعقيدات الرّأسمالية الحديثة، وهو بذلك يسعى إلى فهم العالم على حدٍّ سواء. ويصفُ الرّاوي بدقّة كذلك المحاضرات التي يقدّمها في الجامعة، ليمنحنا لمحةً عن المعرِفة التي يحملها للآخر هو القادم من ثقافةٍ مختلفة تماما.
تستفيد الرواية من العديد من التقنيات السردية المتنوّعة كما عوّدنا بذلك إبراهيم، إذ نعثر على الاقتباس والتعليق والحجاج والأرشيف الذي تتداخل فيه مقتطفات من مقالات صحفيّة تتضمّن التاريخ والسياسة والإعلام وهوامش توضيحية ضمن المتن الروائي. في روايةٍ مشابهة وهي “الجليد”، حيثُ يعود بنا إبراهيم إلى شخصيّة الدّكتور شكري نفسه ولكن هذه المرّة إلى سنة 1973 وفي روسيا زمن الاتّحاد السوفييتـي، حين كان شكري طالبا هناك. يستخدم إبراهيم، محمِّلا أيضا شخصّيته تجربته الخاصّة، تقنية اليوميّات ليروي تفاصيل الحياة الـمَعِيشة بدقّة شديدة وبجرأة تطرّق خلالها إلى الحياة الطلاّبيّة الـمتشعّبة والغارقة في استهلاك المخدّرات وإدمان الكحول وحفلات الجنس الجماعيّ والخلاعة المتطرّفة إلى حدٍّ كبير أحيانا. وفي هذه الرّواية أيضا لا نعثر على منطق الصّراع بل منطق التآلف والبحث عن الـاِندماج وكسب حقيقةٍ مَا عن الذّات بعيدا عن ثقافتها الموروثة، داخل متنٍ روائيّ متعدّدٍ أيضا يحتوي إشاراتٍ إلى التاريخ المصري والروسي، سيّانَ، والكثير من مقاطع الأرشيف.
نخلُصُ عبر هذه الإطلالة على هتين الروايتين إلى أنّ إبراهيم يدعو إلى التساؤل حول كيفية تمثّل وتشكّل صورة الغرب في سياق من الفردانيّة لدى شخصيّة من النّخبة. وتكمن الأهمية الرئيسية لهذه الكيفيّة في انقلابها على الرؤية الاستشراقية السائدة في مقاربة العلاقة بين الشرق والغرب داخل منطق الصّراع والهيمنة. فصنع الله إبراهيم يكسر هذه الثّنائية (المانويّة) بأدواتِ الفنّ الرّوائي مستخدِما أدواتٍ متنوّعة طريفة وخاصّة به.
لقدْ أحدث صُنع الله إبراهيم ثورةً في الكتابة السّرديّة العربية، بتوظيفه لتقنياتٍ جديدة مستلهمة من الأدب العالميّ ما بعد الحداثي، سخّرها لنقد السّلطة وتعرية زيف الإيديولوجيات التي عصفت ببلاده خلالَ حقبة السّتّينات، معبِّرا عن حاجةٍ ماسّة إلى استنهاض وعي جديد يقطع مع الماضي ولا ينكر الواقع بل يحاول تفهّمه والتّآلُفَ معه، ليقدّم للقارئ مشروعا أدبيّا يتجاوز الرواية من أجل الرواية، بل ليؤكّد أنّ الكتابة شهادةٌ وموقفٌ وتمرّد متواصل.