فرانز فانون في مئويته : سيرة المقاومة والحلم بإنسانية جديدة
❞ احتفظ بابتسامتك ما بعد الحديثة وشعورك بأنّ الفلاسفة الأفارقة، التقليديين، الماهويين، الخارجين عن الموضة والخارجين عن العصر، هم يحلمون ويرغبون في عالم مضى بلا رجعة ❝
– والتر د. منيولو
❞ هذا الرجل ليس صوت إفريقيا وحدها، بل صوت جميع المضطهدين في العالم ❝
– سارتر في تقديمه لكتاب معذّبوالأرض
❞ في العالم العربي، لم نقرأ فانون كما يجب، رغم أنه قدّم لنا أدوات لفهم علاقتنا بالتاريخ والاستعمار والهوية ❝
– عبد الله العروي
مئة عام مضت على ميلاد فرانز فانون، الطبيب النفسي والمفكر المناهض – بشراسة – للاستعمار وما بعده في القارة الإفريقية. سواء كان ذلك من خلال مشاركته في الثورة الجزائرية، أو عبر أعماله التي خلّفها، وعلى رأسها «معذّبو الأرض» ذلك الكتاب الذي اعتبره الناقد الجامايكي ستيوارت هول “إنجيل حركات التحرر الوطني”، وحجر الزاوية في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، التي أخذت في التبلور ابتداءً من أواخر سبعينيات القرن المنقضي، مع الثالوث المقدس (حسب تعبير كارل يونغ) وهم ؛ إدوارد سعيد وهومي بابا غياتري سبيفاك. ثم في عقد التسعينات بأمريكا الجنوبية مع ما يُعرف بـ «جماعة بحث “حداثة /كولونيالية/ ديكولونيالية» ( يرمز إليها بثلاثة حروف هي M/C/D) التي تضم مفكرين مثل أنيبال كويجانو، إنريكي دوسيل، رامون غروسفوغل، كاثرين والش، ولتر منيولو، وبواڤينتورا د سوسا سانتوس (البرتغال) …
وإذ نستحضر فانون اليوم بعد أكثر من سبعة عقود على وفاته، فإننا لا نفعل ذلك على سبيل الاستعادة الماضوية أو الاحتفاء الرمزي، مثلما يُراد له ضمن سياسات الإبادة الابستيمية (épistémicide)، فليس فانون مفكرًا يُستعاد لمجرد تأريخ لحظة، بل لأنّه بما امتلكه من بصيرة نادرة – وصفها إدوارد سعيد بالنبوءة – أدرك أن الاستعمار لم يكن نظامًا زمنيًا، بل بنية ذهنية ونفسية، تُعيد إنتاج ذاتها بأشكال مغايرة. لذلك، تبقى أفكاره شاهدة على قدرة الفكر التحرّري على مقاومة الاستلاب والهيمنة، لا مجرّد نظرية، بل فعل مُقاومة متجدد.
البداية؛ مع النشأة والصدمة الأولى
على جزيرة صغيرة في شرق الكاريبي تخضع للإدارة الفرنسية، وُلِد فانون (20 جويلية 1925) لأسرة سوداء، نشأت بطبيعة طبقتها الكومبرادورية في كنف الاستعمار واستفادت من وجوده. لكن الطمأنينة النسبية التي طبعت سنواته الأولى سرعان ما تلاشت، فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية فُرض الحصار على الجزيرة من قبل قوات حكومة فيشي الموالية للنازيين التي قامت بالإساءة الى السكان الأصليين.
في ذلك الوقت، ظن الفتى أن حرّيته وحرية المارتينيك وفرنسا ترتبط جميعها ببعضها البعض، فقرر وهو في السابعة عشرة إنهاء دراسته الثانوية والانضمام إلى المقاومة الفرنسية (سنة 1943)، فلم تُثنه حكمة شقيقه ” إن ما يحدث في أوروبا لا يعنينا… عندما يطلق البيض النار على بعضهم البعض، فهذا يعتبر نعمة للسود”. ومضى للقتال مع الكتيبة الخامسة لجزر الأنتيل (BMA5) في المغرب (الدار البيضاء) والجزائر (بجاية)، ثم في فرنسا، حيث أصيب بجروح في ظهره بمعركة كولمار (15 نوفمبر 1944) لكن الجرح الذي ترك أثرًا عميقًا في نفسه، كان خيبة الأمل التي عاشها بعد تحقيق النصر حينما جرى أثناء العرض الشهير لدخول قوات “فرنسا الحرة” إلى باريس (أوت 1944) سحب الآلاف من الجنود الأفارقة واستبدالهم بجنود فرنسيين بيض، فيما عُرف بـ سياسة “تبييض الجيش” (Blanchiment de l’armée) لينقشع إلى الأبد وَهْم “المواطنة الفرنسية” التي علمته شعارات الأخوة، المساواة وبقية المثل الزائفة كما عبّر عن ذلك بوضوح في رسالته إلى أسرته بتاريخ 12 أفريل 1945 :
«الآباء الأعزاء، لقد مر عام منذ أن غادرت فورت دو فرانس. لماذا ؟ للدفاع عن المثل الأعلى القديم!. إذا لم أعد، وإذا علمتم يومًا ما بموتي أمام العدو، فعزّوا أنفسكم، ولكن لا تقولوا أبدًا: لقد مات من أجل قضية نبيلة. لقد دعاه الله إلى نفسه؛ لأن هذه الإيديولوجية الكاذبة، درع العلمانيين والسياسيين الأغبياء، لا يجب أن تنيرنا بعد الآن؟ لقد كنت مخطئا!»
على إثر نهاية الحرب عاد فانون إلى المارتينيك لفترة قصيرة استأنف فيها دراسته، وفي الوقت ذاته انخرط في الحملة الانتخابية البرلمانية لمعلّمه الشّاعر السريالي والشيوعي إيمي سيزير، الذي سيكون له دور كبير في تشكيل وعيه الفكري والسياسي.
❞ أحدثكم عن ملايين من الرجال الذين زُرع فيهم بعناية الخوف، عقدة الدونية، الرجفة، الركوع، اليأس، التبعية❝
– إيميه سيزير، خطاب حول الاستعمار
سنوات الدراسة في ليون والصدمة الثانية.
بعد أن نال شهادة البكالوريا، غادر فانون جزيرته الصغيرة، متجهًا نحو ليون (1946) حيث بدأ رحلته الجديدة في دراسة الطب النفسي. تقول أليس شركي في كتابها «بورتريه فرانز فانون» إنّ المدينة الفرنسيّة لم تكن مجرد محطّة دراسية، بل كانت نقطة تحوّل في فكره. هناك، تابع محاضرات موريس ميرلوبونتي، واقعاً في أسر الفينومينولوجيا، إلى جانب ضروب شتّى من وجودية سارتر، وأنماط من الفلسفة انتظمت تفكيرَه اللاحق كلّه.
وبحسب ديفيد ماسي الذي أرّخ لسيرته كان فانون قريباً من الفصيل الطلابي للحزب الشيوعي الفرنسي، دون أن يصبح عضواً فيه. وفي هذا السياق شارك في مظاهرات إطلاق سراح الزعيم الشيوعي بول فيرجيس، كما شارك في مظاهرات لدعم الثّورة الملغاشية.
في ليون أيضا ستكون الصدمة العنصرية الثانية التي يتعرض لها فانون إذ يذكر آدم شاتز في كتابه «عيادة ثائرة – الحياة الثورية لفرانز فانون» ، أن الأخير؛ لم ينس قط ذلك اليوم من عام 1947 عندما تعرض للضرب والدوس من قبل الشرطة أثناء تظاهره للمطالبة بإطلاق سراح بول فيرجيس. أو الحادثة الأخرى التي تعرض لها عندما كان يسير في الشارع مع جوزي (زوجته الثانية) فقبض عليه بعنف، وأسيئت معاملته لساعات في مركز الشرطة.
هكذا عاش فانون “واقعة السواد” التي دفعته إلى تأليف كتابه الأول «بشرة سوداء – أقنعة بيضاء» (1952) وفيه تأمّل حانق لعلل الإستعمار النفسية، مبينا أن الاستعمار هو مشروع شامل، يعمل على تجريد السّود من إنسانيّتهم تاركا اياهم في نهاية الأمر «يسكنون منطقةً من الّلاوجود، منطقةً مُجدِبةً وقاحلةً بشكلٍ غير عاديّ» ( من الكتاب)
وعبر المقدمة الافتتاحية لعمله يعرض فانون رسمًا تخطيطيًا للعلاقة بين الأنطولوجيا والهياكل الاجتماعية، مؤكدًا أن الأخيرة تولد الأولى، وتحبسها في فئاتها العرقية.
وهي فكرة طورها من خلال قراءته لكتاب سارتر الموسوم بعنوان «تأملات في المسألة اليهودية» الذي يطرح فيه الفيلسوف الفرنسي سؤال من هو اليهودي؟ فيستخلص الجواب «إن اليهودي هو من يعتبره الآخرون يهوديًا، أي أن وجوده لا ينبع من ذاته، بل من تصورات المعادي للسامية».
هذا الكشف عن التشكل الاجتماعي لوجود الإنسان، هو ما وجد فيه فانون صدى لواقع العنصرية التي يتعرض لها السود. فالرجل الأبيض بالنسبة إليه هو من يشكّل صورة الرجل الأسود، ليظل هذا الأخير غريبًا في ذاته محاصرًا في “وضعية السواد”.
في الفصل الخامس يقدم فانون التجربة المعيشة مفهوما مركزيا في نقده لتذويت النظرة العنصرية، إذ يروي تفاصيل لقاء جمعه بطفل أبيض على متن قطار في فرنسا، أشار بإصبعه نحوه صارخًا بفزع: «انظروا! زنجي!»، ليأخذنا عبر سرده لتلك الحادثة كيف يمكن للعنصرية أن تشيّء الرجل الأسود وتجعله “موضوعا للانسحاق” لأن جميع الخيارات المتاحة تدوّن “البياض” نمطا طبيعيّا للإنسانية، مما يدعو الأسود إلى التخلي عن “سواده”، حتى يقنع الرجل الأبيض بالاعتراف به إنسانا لكن دون أن ينجح في ذلك، لأنّ تاريخ الصراع من أجل الاعتراف يتخذ صورة غير قابلة للمواءمة في ظل مجتمعٍ تُحدّده النّظرة العرقيّة، وهذا ما يوضحه من خلال اشتباكٍ نقديٍّ مع كتاب فينومينولوجيا الرّوح لهيغل لا سيما جدلية السيد والعبد ونظرية الاعتراف.
مع ختام الكتاب، يصل فانون إلى قناعة بأن سبيل النجاة والمقاومة يكمن في التّأكيد الإيجابي للهويّة التي سلبتها “النّظرة البيضاء” وتكوين “عالم من الاعترافات المتبادلة” بعد التخلّص من ترسانة المجتمعات التي طورتها البيئة الاستعمارية.
❞ الرأسمالية هي التي خَلَقَت ماركس، والفقر المُدْقع في صقلية هو الذي خَلَقَ غاريبالدي، والأوتوقراطيَّة الروسيَّة هي التي خَلَقَت لينين، كما خَلَقَ الاسْتِعْمَار البريطانيّ غاندي أما فانون فقد خَلَقَه الرَّجُل الأبيض❝
– فرانز فانون، لـ ديفيد كوت
تجربة العمل في مستشفى سانت ألبان
بعد مغادرته ليون في عام 1952، انتقل فانون إلى مستشفى سانت ألبان في جنوب فرنسا حيث بدأ عمله تحت إشراف فرانسوا توسكيليس، الثوري الكاتالوني اللاجئ من الحرب الأهلية الإسبانية. هناك، في جو من الثورة النفسية والاجتماعية اجتمع التحليل النفسي بالماركسية لتتبلور فكرة الطب النفسي المؤسسي (La psychothérapie institutionnelle) الذي ركز في علاجه على نزع الاغتراب الاجتماعي للمريض من خلال إعادة تكييف هياكل المستشفى وخلق تفاعلية بين المجموعة عوض سياسات العزل والتقييد. وبالتالي لم يعد الطبيب يلبس سترته البيضاء، ولا رابضا في مكتبه يتلقى وفود المرضى، كما أن المرضى أنفسهم لم يعودوا أسرى في أجنحتهم، بل قاموا بزراعة الأرض، وإنشاء النقابات، وتنظيم الفعاليات الثقافية. فأصبحت “المؤسسة” مكانا للتعاون والمنفعة المتبادلة بين المرضى والموظفين على حد سواء. ما جعل ماريوس بونيه وهو أحد الأطباء العاملين يدون في مذكراته كاتباً «عندما أفكر في هذه الفترة، غالبًا ما أتساءل: من عالج من؟»
تدريب فانون الطبي في هذه البيئة الفريدة من التفاعل الإنساني سيكون محطّة فاصلة في حياته، إذ أطلق في داخله أسئلة جديدة حول الاغتراب والتحرر النفسي. تلك التجربة التي استمرت عامًا كاملًا، ستقوده في النهاية إلى الجزائر، حيث سيواصل مسيرته في مستشفى بليدة-جوانفيل للأمراض النفسية محملاً بأفكار جديدة عن الإنسان،الحرية والعلاج.
❞ إذا كان الاستعمار يسحق أجساد المستعمَرين، فإنه أيضًا يسحق أرواحهم. فانون فهم هذا أكثر من أي شخص آخر❝
– سيمون دي بوفوار
– تجربة العمل في مستشفى البليدة والصدمة الثالثة
في الثالث والعشرين من نوفمبر 1953، وصل فانون إلى الجزائر ليواجه واقعًا مغايرًا يثير الغضب. كان الأطباء الفرنسيون، تحت إشراف مدرسة الجزائر للطب النفسي (L’École d’Alger)، يعاملون المرضى ككائنات دونية وفقًا لرؤية عنصرية. أرساها مؤسس المدرسة أنطوان بورو (Antoine Porot) الذي رسم في مقالاته مثل «الاندفاعات الإجرامية لدى الأهالي الجزائريين» (1932) و«بدائية سكان شمال أفريقيا» (1939)، صورًا مشوهة عن الشمال إفريقي معتبرا إياه «إنساناً بدائياً يعاني من تخلف عرقي ثابت وراثياً بسبب المناخ الحار، الذي أدى إلى نشوء شخصية سريعة الإنفعال, إجرامية تتسم بغريزة قتل دموية …» إذ كانت هذه الادعاءات العنصرية تُستخدم لتدعيم الإيديولوجية الاستعمارية، حيث عمل الطب الإثنو- نفسي الاستعماري على خلق فروق نفسيّة مزعومة بين المستعمِر والمستعمَر. في المقابل، ومن خلال مقالاته المنشورة خلال صيف 1955 في دورية “الوعي المغاربي” انتقد فانون هذا التوجه بقوة، مؤكدًا تأثير الاستعمار العميق على الصحة النفسية كما قام بتثوير الممارسات السائدة، مثلما تذكر لنا إيرين جيندزييه (طبيبة عملت في مستشفى بليدة-جوانفيل ) في شهادتها : «بعد أقل من أسبوع من وصوله، حقق فانون معجزات حقيقية. أولاً، تحدّث بسرعة إلى أكبر عدد ممكن من الأطباء والممرضات حول العلاج النفسي المؤسّسي.ّ ونزع الأغلال عن المرضى المقيدين ليكونوا أحرارًا، ثم أنشأ لهم ورش عمل للصناعة اليدوية والفلاحية، نظّم أنشطة ثقافية، وفتح المقاهي، كما أسس مجلة أسبوعية (Notre Journal) تابعت تطوّر وتقدّم علاج مرضى المستشفى، وصولا إلى ترتيب نزهات أسبوعية إلى الشاطئ من أجل الحفاظ على جميع الروابط مع العالم الخارجي».
لكن هذا لن يدوم طويلا، لأن أحداث نوفمبر 1954 وبداية النضال المسلح ضد المستعمرين الفرنسيين، مثّلت نقطة تحوّل جليّ في عمله طبيبا نفسيّا، إذ رسّخت الخسائر الجسدية والاضطرابات النفسية الناجمة عن تزايد العسكرة والتعذيب، قناعته بأن مؤسسات الطب النفسي في المجتمعات المستعمرة هي أماكن للعنف لا للشفاء، وكما لاحظ روبرت يونج، المتخصص في الدراسات ما بعد الاستعمارية، فقد رسم فانون تشبيهًا بين المجتمعات الخاضعة للحكم الاستعماري والمرضى النفسيين المحتاجين إلى العلاج، ولكن ليس العلاج النفسي هذه المرة بل العلاج الثوري الذي بإمكانه إنهاء الاستعمار. ليقدم استقالته بتاريخ ديسمبر 1956، وينضمّ إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية (F.L.N) ما جعل من الحكومة الفرنسية تجبره على مغادرة الجزائر خلال ثمانية وأربعين ساعة. الأمر الذي دفعه التوجه إلى تونس، مكان تواجد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) في تلك الفترة.
❞على كل جيل، في ظل ظروف معتمة كهذه، أن يكتشف رسالته، فإما أن يحققها أو يخونها❝
– فرانز فانون، معذّبو الأرض
فانون في تونس
خلال إقامته في تونس التي وصل إليها في جانفي من سنة 1957 سيلعب فانون أدوارا عدة في التعريف بالقضية الجزائرية على الساحة الدولية، سواء من خلال تعيينه ملحقا دبلوماسيا، أو من خلال مقالاته التي كتبها في جريدة “المجاهد” (الصادرة باللغة الفرنسية) بهدف توسيع النقاش حول إنهاء الاستعمار في صفوف اليساريين الفرنسيين.
وعلاوة على أنشطته السياسية، تولى الطبيب الثوري منصبًا أولاً في مستشفى الرازي سنة 1957، ثم في مستشفى شارل نيكول، الذي ترأسه من العام 1957 حتى العام 1959 وقام فيه بإنشاء أول مركز نهاري للأمراض العصبية والنفسية في القارة الأفريقية، بغاية تحرير هياكل العلاج من التمثلات السجنية، كما يوضح ذلك في مقالة كتبها بالتعاون مع زميله تشارلز جيرونيمي، تحت عنوان «الاستشفاء النهاري في العلاج النفسي: قيمته وحدوده».
❞ علينا أن نظل سنين طويلة نضمد الجراح الكثيرة، التي لا تشفى في بعض الأحيان، الجراح التي أحدثها في شعوبنا الاندفاع الإستعماري❝
– فرانز فانون، معذّبو الأرض
في سنة 1959، تمكن في غضون ثلاثة أسابيع من تأليف كتابه الثاني «السنة الخامسة للثورة الجزائرية» ( نشر في الإنجليزية تحت عنوان «نحو الاستعمار المحتضر» ) منطلقا من الفكرة الماركسية القائلة ” إن الناس يتغيرون في الوقت نفسه الذي يغيّرون العالم” ليقدم لنا بورتريه إجتماعي للشعب الجزائري في إطار التحولات الجذرية التي نشأت خلال حرب التحرير، وكيفية تَغَيُّرِ وعيهم أثناء النضال.
بعد عام من ذلك، شارك فانون في رحلة ميدانية إلى مالي بقصد فتح جبهة ثالثة وحشد المزيد من التضامن عبر الصحراء الكبرى، لكنه تلقى خبر إصابته بسرطان الدم وعدم أمله في الشفاء. ليدخل حينها في سباق مع الموت من أجل ترك وصيته الأخيرة التي جسدها كتابه الأشهر «معذّبو الأرض» بعدما تجمعت عوامل عديدة لتشكيله، كما عبر عن ذلك نايجل سي غيبسون في مؤلفه “فانون والمخيلة بعد – الكولونيالية” وهذه العوامل هي تجاربه في الثورة الجزائرية وملاحظاته بمآلات الاستقلال في تونس إلى جانب جريمة قتل باتريس لومومبا مفجر الثورة الاشتراكية في أفريقيا.
عندما صدر الكتاب في ماي عام 1961، كانت جبهة التحرير الوطني قد وصلت إلى مراحل حاسمة في حرب الاستقلال، على إثر تكثيف حملتها المسلحة واتباع سياسة العنف الثوري. وهو الخيار الذي سانده فانون وهو يكتب فصله الأول الموسوم بعنوان «في العنف» مفتتحا شرارته بالكلمات التمهيدية التالية ❞ سواء أقلنا تحريرا وطنيا، أم نهضة قومية، أم انبعاثا شعبيا، أم اتحادا بين الشعوب، وكيف كانت العناوين المستعملة والمصطلحات الجديدة، فإن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما❝
لقد تم التأكيد مرارًا على أن مقدمة سارتر التي خطها له في هذا الكتاب، جعلت من خطاب فانون أكثر تطرفًا، إذ وضع الفرنسي العنف كغاية في حد ذاته، لكن ما يقوله فانون مختلف تمامًا. فالعنف هو وسيلة لا مفر منها للتحرر وتحقيق إنسانية عالمية، وهي لحظة تاريخية تتخذ مكانها في ظروف اجتماعية تاريخية محددة للغاية.
الآن، وبعيدًا عن مقدمة سارتر التي ساهمت في انتشاره بالقدر الذي ساهمت في حظره وإثارة الجدل حوله، يمكن التوقف بإيجاز عند تأويل الفيلسوف الكاميروني أكيل مبيمبي لنظرية العنف عند فرانز فانون، مع الأخذ بعين الاعتبار بُعدين أساسيين؛
يتمثل البُعد الأول في المعطى النفسي الفردي، إذ لا يقتصر العنف المضاد على طرد المستعمرين فحسب بل يتجاوز ذلك ليؤدي دورًا جوهريًا في استعادة الذات المقهورة لكرامتها وإنسانيتها. فالعنف، وفقًا لفانون ليس مجرد أداة للتحرير السياسي، بل هو أيضًا عملية تطهير نفسي تساهم في تحرر الفرد من الشعور بالنقص واليأس والخنوع.
أما البُعد الثاني، فيتعلق بالجانب السياسي الجمعي، حيث يُشكّل العنف الثوري أداة لتوحيد الشعب وتحريكه نحو بناء مجتمع جديد يتجاوز إرث الاستعمار القائم على القهر والظلم. فالعنف، بهذا المعنى، ليس مجرد ردّ فعل، بل هو تفكيك لأسطورة المستعمر، ولحظة تحوّل جماعي تفتح أمام المستعمَرين أفقًا سياسيًا جديدًا يؤسس لعالم مختلف، أكثر عدلًا وكرامة.
❞ كما قال فرانز فانون بكل تلك النبوئيّة وبكل ذلك الإيجاز المُلغز أيضًا، سيكون ضروريًا ضرورة مطلقة أن يتحول الوعي القوميّ إلى وعي اجتماعيّ؛ ذلك أن التحرير، كما قال فانون أيضًا، هو صناعة أرواح جديدة، لا مجرد استبدال شرطي أبيض بآخر أصلاني❝
– إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية
مع أن فانون في كتاب معذّبو الأرض يرسم تطور الذاتيات الجديدة، إلا أنه ظل قلقًا بشأن شكل المجتمع الجديد الذي سينشأ في الجزائر، بعدما عاين خلال فترة تواجده في تونس أو أثناء زيارته للعديد من البلدان الأفريقية، المآل الذي ستنتهي إليه الدول المستقلة حديثا، إثر وقوعها فريسة البرجوازية الوطنية الّتي رأى فيها بداية إنتاج الحقبة الاستعمار الجديد. لذلك يعكس الفصل المعنون «مطبات الوعي القومي» انشغاله الشديد بدور هذه الطبقة في البلدان المستعمَرة.
تبدأ حكاية البرجوازيّة الوطنيّة من نرجسيّتها الّتي تُخوِّل لها أن تأخذ بزمام الحكم بعد الاستقلال لاعتبارات عدّة، منها التعليم في المدارس الكولونياليّة مثلًا، أو استحواذها على الأراضي والممتلكات غداة خروج الاستعمار.
وعلى عكس البرجوازية الغربية التي تكون منتِجة وطفيلية في آن معاً، فإن البرجوازية في الدول المستعمرة هي طفيلية وحسب. أي تكتفي بأداء مهمة الوكيل للشركات الغربية، فلا تقوم بأي دور بنّاء في زيادة الثروة الإنتاجية للبلاد.
دستوريًّا أيضًا، تختار هذه البورجوازيّة نظام الحزب الواحد شكلًا من أشكال الدكتاتوريّة، وتختار زعيمًا له من القبول عند الشعب ما يؤهّله لذلك، ومن ثم فإن هاته القيادة التي تبدأ في الأصل تقدميّة، ستعمل بسرعة على نقل السلطة والامتيازات من أيدي حفنة من البيض إلى أيدي حفنة من الملوّنين. وفي مثل هذه الأوضاع، تستغني عن الشرعية الشعبية وتدير ظهرها أكثر وأكثر للأرياف وتغض الطرف عن حقائق التنمية غير المتوازنة. وبهذا الفشل الاقتصاديّ والتبعيّة السياسيّة، يعود الاستعمار من جديد، كأنّه خرج من الباب ليعود من النافذة.
إن معارضة فانون للنموذج التنظيمي الذي تبنته معظم الثورات الأفريقية، بما في ذلك الثورة الجزائرية فيما بعد، تعكس رغبته العميقة في الانتقال من مجتمع كولونيالي إلى مجتمع ما بعد استعماري، وهو ما يتطلب تحويل الثورة الوطنية إلى ثورة اجتماعية. ولغاية تحقيق هذا الهدف، يقترح حلاً ماركسياً كلاسيكياً يُعرف باضمحلال الدولة؛ نظرية تنزع القداسة عن المركز – مثل العاصمة، الثقافة الرسمية، والزعيم الأوحد – وتوزع وظائف الدولة على نطاق أوسع من القيادات المحلية. هكذا لا يكون الاستقلال مجرد انتساب ظاهريّ يرتكز على بعض الشروط الوراثية أو المؤسساتية القديمة. بل يصبح جسرًا نحو بناء مجتمع ما بعد استعماري حقاً.
حين نصل إلى الصفحات الأخيرة من معذبي الأرض، لا نغلق الكتاب، بل نفتحه على امكانات جديدة. لأن فانون لا ينظر خلفه، ليدوّن نهاية الثورة، بل يفتح أفقًا اخلاقياً وفلسفيا جديدًا. محذراً ن إعادة إنتاج نفس البُنى التي صنعها المستعمِر، وداعياً إلى قطيعة جذرية مع كل منظومة فكرية تُفرغ الإنسان من معناه.
❞ .. إني حين أبحث عن إنسان التقنية والنموذج الأوروبي، لا أرى إلا سلسلة من الإنكارات للإنسان، لا أرى إلا مواكب من جرائم قتل الإنسان. إن البحث عن حلول لإنقاذ المصير الإنساني، تتطلب تجديدات مبتكرة حقاً. فلنقرر أن لانقلد أوروبا ولنوجه عضلاتنا وأدمغتنا في اتجاه جديد. لنحاول أن تخلق الإنسان الكلي الذي عجزت أوروبا عن تحقيق الانتصار له.
فيا أيها الرفاق ، يجب علينا أن لا ندفع جزية لأوروبا بخلق دول ونظم ومجتمعات تستوحي أوروبا.
إن الانسانية تنتظر منا شيئاً آخر غير هذا التقليد الكاريكاتوري ، الفاجر على وجه الإجمال.
إذا أردنا أن نحيل أفريقيا الى أوروبا جديدة ، وأن نحيل أمريكا الى أوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا الأوروبيّين ، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة.
أما إذا أردنا أن تتقدم الإنسانيّة درجة، إذا أردنا أن نحمل الإنسانية إلى مستوى مختلف عن المستوى الذي بلغته أوروبا، فعندئذ يجب علينـــــا أن نبتكر، أن نكتشف … إذا أردنا أن نستجيب لآمال شعوبنا علينا أن نبحث في غير أوروبا. بعد ان اصبحوا يشعرون نحونا باشمئزاز شدید.
فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الانسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشيء فكراً جديداً، وأن نحاول خلق انسان جدید❝.
❞ فرانز فانون قد مات.
كنا نعلم أنه محكوم عليه بالموت منذ عدة أشهر، رغم تشبثنا بالأمل وقدرته على تحقيق المعجزات.
إذا كان لمفهوم “الالتزام” معنى حقيقي، فهو يكتسبه مع فرانز فانون.
طبيبا، كان يعرف معاناة الإنسان. وبصفته “رجلًا مستعمرًا”، وُلِد وكبر في وضع استعماري، شعر بهذه المعاناة وفهمها أكثر من أي شخص آخر.
حياة قصيرة لكنها استثنائية. حياة خاطفة لكنها متألقة❝
– إيميه سيزير في تأبينه لفانون
قبل بضعة أشهر من تحقيق الاستقلال الجزائري، وفي 6 ديسمبر 1961، توفي فرانز فانون في مستشفى بيثيسدا في ميرلاند، الولايات المتحدة الأمريكية، عن عمر ناهز ستّة وثلاثين عامًا.
كان فانون قد أوصى بدفنه في مقبرة الشهداء بمدينة بئر العاتر في الجزائر، وهو المكان الذي شهد معركة شعبية عنيفة ضد الاستعمار. في تأبينه، قدم الشاعر إيميه سيزير شهادة قوية على شخصية فانون الفذة، مؤكداً أنه لم يكن مجرد مفكر أو طبيب، بل كان صوتًا يصدح من قلب الجراح التي ألحقها الاستعمار بالإنسانية.
في هذا المعنى، لا يزال صوت فانون راهنًا: صرخة ضد التبعية، ونداء نحو فكر جديد، فكر يولد من التجربة المعيشة، من الرفض، ومن الإيمان بإمكانية الإنسان في إعادة خلق العالم من رماده.