ليبيا والكريسماس: حتى الاحتفال يحتاج إلى فتوى!
حملة هيئة الأوقاف الليبية على احتفالات الكريسماس:
الاحتفال كمرآة لأزمة أعمق
مع نهاية كل عام تتجدد في ليبيا حملات ضد مظاهر الاحتفال بالكريسماس ورأس السنة، تقودها جهات دينية مثل هيئة الأوقاف ومؤسسة الإفتاء. وبينما تواجه البلاد أزمات سياسية وأمنية خانقة، تُثار التساؤلات حول دوافع هذه الحملة وأثرها على المشهد العام، خصوصًا في ظل تاريخ طويل من تدخل المؤسسات الدينية في الشأن العام. أعلنت هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية في ديسمبر 2024 حملة موسعة ضد مظاهر الاحتفال بالكريسماس في الأماكن العامة. جاء هذا الإعلان في بيان رسمي، تضمن تحذيرات من إقامة أي فعاليات تتعلق بهذه المناسبة أو المشاركة فيها. ووصفت الهيئة هذه المظاهر بأنها “انحراف عن القيم الإسلامية”، داعيةً المواطنين إلى الالتزام بتعاليم الدين، ورغم أن نسبة المسيحيين الليبيين ضئيلة جدًا، مع وجود محدود للمسيحيين الأجانب في بعض المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغازي، إلا أن الحملة تستهدف بشكل أساسي محلات بيع الهدايا، والمقاهي التي تزين واجهاتها برموز مرتبطة بالكريسماس مثل شجرة الميلاد. لتصبح هذه الحملة في خضمّ مشهد ليبي يعج بالصراعات المسلحة والانقسامات السياسية ضد مظاهر الكريسميس أداة تستخدم لتعزيز الهيمنة الثقافية والدينية لتكون لا فقط مجرد قضية رمزية أو صراع مع الحداثة، بل جزءا من معركة أوسع حول الهوية ومستقبل الحكم في ليبيا.
الدين بوصفه أداةً شرعيةً للحكم
تاريخيا، استُخدم الدين في ليبيا وسيلةً لضمان شرعية السلطة باختلاف السلط والحقبات، في ما يبدو أن هذا التّقليد قد أسّسته الدّولة العثمانية خلال فترة حكمها في ليبيا واستمرّ حتى بعد مغادرتها لتتلقّفه حكومة الاحتلال الإيطالي، إذ تشير عدة مصادر تاريخية إلى أنه وخلال عام 1934، بعد تأسيس ليبيا الإيطالية، تبني “موسيليني” مجموعة من السياسات لكسب تعاطف المسلمين وضمان تحالفهم. إذ أنه رغم توقيعه على اتفاقية “لاتران” مع الكرسي الرسولي في “الفاتيكان”، فإنه قرر منْح نفسه لقب حامي الإسلام والمسلمين سنة 1937 وإهداءه سيف الإسلام بعد اعتباره “حامي وخليفة المسلمين” في العاصمة طرابلس.
وامتد توظيف الدين في السياسة بشكل أكبر خلال فترة حكم الملك ادريس التي امتدت حوالي عقدين، إذ كان الملك ادريس لا مجرد زعيم الطائفة السنوسية في ليبيا فقط ولكن رمزا للطائفة في شمال افريقيا بأكملها لتمكّن تلك الرمزية الملك ادريس من استغلال ومزج الدين بالسياسة لرمزيّته الدينية وشرعيته السياسية إذ كانت أغلب المؤسسات تُدار وَفق نهج صوفيّ ودينيّ. ولكنّ ذلك الاستغلال كان قد وصل نقطة النهاية بعد “ثورة الفاتح” التي قادها القذافي والتي أنهت الحقبة الملكية وأعلنت تأسيس الجمهورية العربية الليبية التي تحولت لاحقا إلى الجماهرية حيث انتهى التوظيف الديني في السلطة بعد أن أعاد القذافي تشكيل الخطاب الديني ليتناسب مع مشروعه الثوري مع تقليص كبير لدور مؤسسة الإفتاء في البداية وإلغائها بشكل نهائي لاحقا ورغم ذلك بقي الدين يلعب دورا كبيرا في الحياة الليبية، خاصة مع نية العقيد الراحل معمر القذافي تحقيق مشروع “مليون حافظ للقرآن” واعتبار حفظ القرآن كاملًا يعادل الحصول على شهادة جامعية والانتفاع بنفس مزايا خريجي الجامعة.
ولكن منذ 2011، لعب التوظيف الديني دورًا كبيرا في إدارة المشهد السياسي خاصة بعد اندلاع ثورة 17 فبراير والتي كان تيار الإسلام السياسي أحد أبرز قادتها بدعم وتمويل قطري كبير، بدءًا من انتماء القيادات المسلحة إلى تيارات الإسلام السياسي والتيارات الدينية المتشددة مثل تنظيم القاعدة وصولا إلى الأشخاص الذين أداروا السلطة في ليبيا بعد الثورة. حيث كان أول القرارات التي تمّ اتخاذها عشية إنهاء حكم القذافي إلغاء كافة القوانين المتعارضة مع الشريعة الإسلامية وباتت مؤسسة الإفتاء هي الجهة الأكثر نفوذا في ليبيا ما بعد فبراير.
دور مؤسسة الإفتاء؛ من الإفتاء إلى الإقصاء
كانت الرياح موائمة للصادق الغرياني بعد الثورة المسلحة التي أطاحت بالنظام الليبي بعد فبراير، حيث حصد رجل الدين ثمار الفتوى التي أصدرها بوجوب الجهاد ضدّ القذافي، إذ خرج الغرياني على التلفزيون طالبا من الليبيين الوقوف ضد القذافي، بعد فتواه بضرورة الجهاد ضد كتائب العقيد معمر القذافي، ليصبح في الواجهة ورمزا من رموز الثورة الليبية، ولكن النقطة المفصلية في مسيرته كانت بدايةَ سنة 2012، إذ تم إعادة تأسيس قانون دار الإفتاء الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي المؤقت مطلع فبراير من سنة 2012 تحت عدد 15 والذي ينصّ على إنشاء دار الإفتاء والذي نصّب الغرياني رئيسًا لها بصلاحيات واسعة للغاية وحصانة استثنائية إذ منح الغرياني صلاحيات تتجاوز في بعض الأحيان صلاحيات وزير الأوقاف نفسه. ودون غيره حظي الغرياني بحصانة قضائية أمام القضاء إضافة إلى عدم جواز مناقشة الفتاوي التي يصدرها في وسائل الإعلام وهو ما اعتبره كثيرون تعديا على حرية التعبير.
ولكنّ صلاحيات الغرياني لم تنتهِ هنا، إذ تجاوزها في عديد المرات، يذكر جمعة عتيقة الرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام محاولات الغرياني التأثير على الناخبين، إذ طالب الغرياني -في شهر جويلية سنة 2012 وقُبيْل أول انتخابات عامة تشهدها ليبيا منذ نحو 46 عاما- الناخبين الليبيين المتوجهين بعدم التصويت لتحالف القوى الوطنية الذي فاز لاحقاً في الانتخابات وعدم التصويت لمحمود جبريل باعتباره «مناصراً لليبرالية». ليثير الغرياني لغطاً في فترة الصمت الانتخابي. كما أن بعض الفتاوى والآراء التي تتدخل في العديد من شؤون الدولة التي تعدّ خارج اختصاصات المفتي حسب آراء عدة، كما حدث في خطابه بشأن جمعة إنقاذ ليبيا وإفتائه بحرمة التظاهر في بنغازي إضافة إلى محاولاته فرضَ رؤية خاصة حول ما يتعلق بكتابة الدستور الجديد لليبيا بعد ثورة 17 فبراير. هكذا لعب الغرياني دورًا مركزيا في توجيه الرأي العام، ولكنْ لم تنتهِ محاولاته عند المجال السياسي فقط، حيث امتدت مواقفه المتشددة تجاه القضايا الدينية والاجتماعية، خاصة عندما أصدر فتاوَى مثيرة الجدل مثل تحريم الاحتفال بـ”عيد الحب”، معتبرًا أنه “مناسبة غربية تخالف الشريعة الإسلامية”. إضافة إلى ذلك ركزت مؤسسة الإفتاء على قضايا رمزية تتعلق بالهوية والثقافة، حيث أطلقت الهيئة حملة لإزالة الأضرحة القديمة في طرابلس وبنغازي، مدعية أنها “رموز للبدع” لتثير هذه الحملة غضب المجتمعات المحلية، خصوصًا الأمازيغ والصوفيين، بالإضافة إلى ذلك قامت هيئة الإفتاء بخلق فتنة داخل ليبيا بعد تكفير الغرياني للإباضيين واعتبارهم أصحاب بدع وعلى ضلالة وشكّكت في إسلامهم وتكفير معتنقي المذهب الإباضي.
مؤسسة الإفتاء الليبية: اللعب على الحبلين
حتى سنوات قليلة كانت مؤسسة الإفتاء الليبية تحظى بإجماع وقبول واسع عند كل الليبيين، إذ كان يُنظر على مدى واسع إلى قدرتها على حلّ الخلافات السياسية التي مزقت الدولة، ولكن بدلا من ذلك اختار الغرياني أن يكون طرفًا في الصراع مستغلاًّ منصبه الديني وتوجيه الرأي العام وتأليبه حيث انطلق في إصدار فتاوي مختلفة، لعل أبرزها دعوته إلى مقاطعة البضائع الغربية احتجاجًا على دعم الغرب لأطراف سياسية معيّنة في ليبيا، ورغم أن هذه الفتوى قد يمكن قبولها وتفهّمها في إطار مبدئي إلا أن الغرياني لم يشمل بفتواه مقاطعة بضائع بعض الدول الغربية الداعمة لحكومة طرابلس، بل اقتصرت فتواه على الدول الداعمة لخصمهم في شرق ليبيا المشير خليفة حفتر. وعندما انطلقت حكومة الشرق الليبي في محاولة غسيل سمعتها والترويج لبنغازي عبر سلسلة من المهرجانات الموسيقية والفنية، اعتبر الغرياني أنها إفساد للأخلاق وقام بتحريم المهرجانات رغم أن حكومة طرابلس تقوم حاليا عبر الوزير وليد اللافي بتدشين عشرات المنتديات والمهرجانات ودعوة المؤثرين والفنانين من مختلف الدول للترويج لإنجازاتهم أي إدانة من قبل الغرياني مثل ما كان الأمر سابقًا، هكذا تبدو سياسة مؤسسة الإفتاء قائمة على توجّه أحادي؛ تجاهل أزمات أكبر وأكثر إلحاحا مثل الانقسام السياسي والحرب الأهلية وتوجيه الرأي العام نحو مشاكل وقضايا أخرى وازدواجية المعايير، ورغم أن أحد أهم الأدوار الذي كان على هيئة الإفتاء لعبه هو مكافحة الفساد، إلا أنها كانت جزءا منه.
” المخانب [اللصوص] تاع هيئة الإفتاء ووزارة الأوقاف كان حشموا على رواحهم وصارحوا الشعب بحقيقة قضية “الزبون” كان يكون خير” يتحدث أحد المواطنين الليبيين عن وزارة الأوقاف وذراعها هيئة الإفتاء الليبية والتي طالتها قضية فساد عرفت بقضية “الزبون” وهو لباس ليبي تقليدي، حيث كشف ديوان المحاسبة الليبي، برئاسة خالد شكشك، في تقريره السنوي عام 2021، عن «تجاوزات مالية واسعة» إذ تعاقدت الأوقاف على توريد «زي عربي» بقيمة 700 ألف دينار، دون تقديم ما يثبت الكمية المتعاقد على توريدها، وأشار ديوان المحاسبة إلى إن الهيئة «صرفت عدداً من الزي العربي للطلبة المشاركين في برنامج (حلقات الذِّكر)، ولا تربطهم علاقة وظيفية بالهيئة، الأمر الذي يعدُّ تصرفاً في المال العام بالمجان بالمخالفة لنص قانون النظام المالي للدولة».
الشرق والغرب: ما تفسده السياسة يصلحه القمع
رغم الاختلافات والفوارق بين حكومتي الشرق والغرب الليبي يبدو القمع والانتهاك حقوق الإنسان والحريات الفردية القاسمَ المشتركَ بينهما، إذ سارعت حكومة الشرق -برئاسة أسامة حمادة والتي يسيطر على مفاصلها أبناء حفتر الثلاثة- بعد إعلان عماد الطرابلسي وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية تفعيل شرطة الآداب إلى السير على خطاها ومنح إدارة مكافحة الظواهر السلبية صلاحيات أكثر، لتعلن منذ أسبوعين حظر مظاهر الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية كافة، وأمرت بعدم السماح ببيع السلع المرتبطة بالاحتفال، أو إدخالها إلى البلاد، من بينها شجرة الميلاد وتمثال بابا نويل والصلبان وعدم السماح بدخول وبيع وشراء جميع السلع المرتبطة بالاحتفال برأس السنة، وتقوم منذ ثلاثة أيام عبر جهاز الحرس البلدي في بنغازي بشنّ حملة على المحالّ التجارية المخصّصة لبيع الألعاب وأدوات الزينة والأغراض المتعلقة باحتفالات رأس السنة ومصادرتها وعدم بيعها بداعي أنها مخالفة للدين. ورغم الامتعاض الذي سببه هذا القرار، فإن مؤسسة الإفتاء غرب ليبيا قد نال استحسانها رغم الصراع بينها وبين الشرق لتقوم بدورها بتحريم الاحتفال برأس السنة الميلادية.
هل تعكس هذه الحملات أزمة هوية؟
تبرَّر حملة الإفتاء بأنها دفاع عن القيم الإسلامية ولكنها تخدم هدفا آخر وهو تعزيز الخطاب السياسي الذي يربط الدين بالهوية الوطنية لتتحول الحملة ضد الكريسماس من مجرد موقف ديني إلى صراع بين قوى سياسية تسعى إلى الهيمنة خاصة أن التيارات الإسلامية تحاول التّموقع اجتماعيا باستخدام هذه المناسبات لإعادة تأكيد وجودها في ظلّ تراجع شعبيتها.
وطالما كانت ليبيا مجتمعًا متعدد الثقافات، متأثرًا بتاريخه الطويل الذي مزج بين التأثيرات الأمازيغية والعربية والإسلامية والغربية. غير أن الصراعات المستمرة منذ عام 2011 أضعفت الهوية الوطنية لصالح هويات فرعية دينية وقبلية وإيديولوجية على حساب مكوّنات تاريخية كانت جزءا من النسيج المجتمعي فيها، مثل الإباضيين والأمازيغ والصوفيين والتْبُو والطوارق. لتُظهر هذه الحملات نزعة متزايدة لدى المؤسسات الدينية لتحديد هوية المجتمع بشكل أحادي، بعيدًا عن التنوع الثقافي الذي كان يُميز ليبيا تاريخيًا. فعمّق هذا النّهج الانقسامات بدلًا من تعزيز التعايش، ويرى المعارضون لفتاوي الإفتاء أن الحملة تعكس فشل المؤسسات الدينية في التعامل مع الواقع الليبي، حيث تُستخدم قضايا رمزية لتحويل الأنظار عن الأزمات الكبرى. وبينما يرى المؤيدون أنها ضرورية للحفاظ على القيم الإسلامية في مواجهة “الغزو الثقافي”، انتقد ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي هذه الحملة بوصفها “انحرافية”، مشيرين إلى أن الوقت والجهد كان من الأجدر توجيههما لحلّ مشكلات مثل البطالة وتردي الخدمات الصحية وتأخر جهود المصالحة الوطنية، “الناس مستحقة الفرحة، خَاطِرْهَا تحتفل وتغير الجو وبس وما عندهمش علاقة بالمسيحية ولا غيره، الناس من 14 سنة ما شافتش فرحة وكان لقت مناسبة تحتفل بيها مش عيب ولا حرام” يتحدث عبد الرحمان، اسم مستعار لصاحب محلّ بيع هدايا ليبية فضّل عدم ذكر اسمه ويضيف؛ “جتني للمحل مجموعة شباب ملثمين في سيارة مصفحة يتبعو ميليشيا الردع وطلبوا مني انّزّل زينة الكريسميس وهددوني كان بعتها مرة تانية، بضاعتي راقدة في المخازن والناس خايفة تشري وفي بلاصة نفرحوا بمناسبة نبيعوا فيها ويتحرك فيها السوق لقينا الخسارة” فيما يتشارك علي نفس مخاوف وإحباط عبد الرحمان بعد عزوف الكثيرين عن اشتراء المرطبات وكعك العيد، يشرح علي أنه في السابق كانت هذه الأيام مخصّصة لاستقبال الطلبات والعرابين لإعداد الحلويات، ولكن الإقبال كان محدودا للغاية؛ انت تعرف المجتمع الليبي يخاف من نظرة الناس ليه وهذا أثر بشكل كبير، حتى إذا إنسان مقتنع انه يشري باش يبطل، وزيد تهديد الميليشيات والوصم الاجتماعي”. وفي السياق نفسه تشير سلسبيل، وهي ناشطة في المجتمع المدني الليبي إلى أن هدف السلطات الليبية فقط تغيير الأولويات وتشتيت انتباه الرأي العام؛ ثلاثة أيام التالي تعطلت سيارتي وفسد المحرك بسبب تساقط الأمطار في العاصمة طرابلس، والسبب مش تساقط الأمطار ولكن بسبب جودة الطرقات السيئة ومنظومة الصرف الصحي والتي لم يمرّ على إنشائها سنتين ولأن شركة المقاولات المكلفة بإنجاز طرق طرابلس تتبع لعبد الحميد الدبيبة لم تتمّ مساءلة شركة المقاولات. أين الأولوية مكافحة الفساد المستشري في البلاد والانقسام السياسي أم محاربة مناسبة اجتماعية للاحتفال؟”
وتأتي حملة هيئة الأوقاف ضد احتفالات الكريسماس في سياق سياسي واقتصادي وأمني صعب للغاية، وهي ليست سوى عرض جانبي لصراعات أعمق تتعلق بالهوية وأولويات الدولة. بينما يستمر المواطن الليبي في معاناته اليومية، تبقى مؤسساته مشغولة بقضايا هامشية لا تسهم في تحسين حياته. هذه الحملة، وما سبقها، تُبرز الحاجة الملحة إلى إعادة النظر في دور المؤسسات الدينية في ليبيا الجديدة، وبناء رؤية شاملة لمستقبل يضمن التعايش والازدهار للجميع، من الأمازيغ مرورا بالحركات الصوفية واضطهاد حقوق المرأة وصولا إلى الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية. تسعى مؤسسة الإفتاء الليبية بدعم من الميليشيات المتشددة إلى هندسة فضاء عام يتماشى مع مزاجها وإلغاء أي اختلاف حتى لو كان في المناسبات فيما يبدو أن سياسات الإقصاء والعزل التي تتبنّاها تستهدف الجميع دون أي اختلافات، سواء كان المختلف مكوّنا دينيا أو عرقيا أو حتى اجتماعيا. وسط صمت رسمي من الحكومة الليبية وتواطؤ معها. ورغم الدعاوي المتكررة بعزل الشيخ الصادق الغرياني من منصبه لأسباب مختلفة لعلّ أهمّها فقدان شروط الأهلية بسبب فقدان ثقة الليبيين به حسب ما ينص عليه قانون تعيين منصب المفتي، إلا أن الغرياني بقي في منصبه رغم اختلاف الحكومات. إضافة إلى انتقادات متواترة لفتاويه حتى من قبل مؤسسات دينية مختلفة مثل الأزهر الشريف خاصة عندما أعلن الغرياني وجوب مقاتلة القوات المسلحة الليبية التابعة لحفتر والتحريض على ممارسة وإثارة العنف على القتل وانتهاك حقوق الإنسان. ويبدو أن الإرث الذي سيتركه الغرياني سواء بقي في منصبه أم غادره قد يصعب تجاوزه بسبب الحملات المتكررة التي بدأت تصاحب فتاويه والتي تستهدف المقاهي والفنادق. فمن تحريم الاحتفال بعيد الحب وشن الهيئة حملة ضد محلات بيع الزهور بمناسبة عيد الحب -باعتبار أنها تروج “لثقافة غربية دخيلة”- إلى منع الاحتفالات برأس السنة الميلادية في الفنادق والمقاهي العامة ومصادرة أدوات الزينة والاحتفال وصولا إلى التكفير وشن حملات الكراهية، ترزح ليبيا تحت حكومتين سلطويّتين تستهدف النساء وحقوق الإنسان والأقليات وأي مظهر لا يتماشى مع مزاجهم، في الوقت الذي كانت فيه الأولوية تتمثل في معالجة القضايا الحقيقية مثل تعزيز الهوية الوطنية الجامعة التي تحتضن التنوع الثقافي والديني وإعادة توجيه المؤسسات الدينية نحو أدوار بنّاءة تدعم السلام الاجتماعي والتنمية ووضع حدّ لتدخل الدين في السياسة، بما يعزّز الحكم المدني. خاصة أن فتاوي مؤسسة الإفتاء تستهدف دوما المناسبات الثقافية والاجتماعية وهذا ما يؤدي إلى تهميش الأقليات بشكل أكبر وهذا يفاقم إضعاف النسيج المجتمعي ويعمّق الانقسامات ويهدّد أي مشروع للمصالحة الوطنية.
أنجزت المقابلات الميدانية مع المواطنين وأصحاب المحلات في العاصمة طرابلس أيام 26 – 27 ديسمبر 2024
أغلب الأسماء المستخدمة في المقال أسماء مستعارة بطلب من أصحابها.