الحجاب في ليبيا، الرِّدَّة الثانية
يوم 23 أكتوبر من سنة 2011، كانت ليبيا قد طوت وبشكل نهائي صفحة معمر القذافي. العقيد الذي حكم ليبيا لمدة أربعة عقود وأدارها وفق رؤيته الثورية والاشتراكية وسقط بعد غارات شنّها ضده حلف الناتو في مدينة سرت مسقط رأسه. بعد أيام قليلة من وفاته كانت مدينة بنغازي شرق ليبيا وثاني أكبر المدن فيها تعيش احتفالات وتعلن النصر الأخير ضد النظام الجماهيري. وبينما كانت الأجواء حينها مفعمة للغاية وثورية وقف مصطفى عبد الجليل وزير العدل السابق المنشقّ عن نظام القذافي ورئيس المجلس الوطني الانتقالي يهنئ الشعب بانتصاره أخيرا ويعلن “إن أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية هو موقوف فورا، ومنها القانون الذي يحدّ من تعدّد الزوجات” لتنقلب الفرحة التي عاشتها نساء ليبيا حينها إلى كابوس خاصة أن النساء شاركن بكثرة في الثورة على أمل افتكاك مزيد الحقوق والحريات ولكن ما حدث كان العكس.
“لقد كانت طعنة مؤلمة للغاية، مؤلمة جدا وخيانة لنا، نحن نساء ليبيا اللاتي ناضلن على مدار عقود من أجل افتكاك حقوقنا لنجد أن وضعنا بات أسوأ من السابق” هكذا وصفت خطابَ عبد الجليل المدرّسةُ الليبية وإحدى النساء اللاتي شاركن في الثورة خلال سنة 2011. ولكن لا سندس ولا أغلب نساء ليبيا توقّعن أن تكون تلك النهاية، بل على النقيض من ذلك كان ذلك التصريح بمثابة فاتحة سلسلة من الإجراءات التعسّفية والقمعية ضد المرأة والحريات الفردية.
ومثل باقي دول المنطقة العربية، تعيش المرأة الليبية في جحيم من القيود والإجراءات المكبّلة لحقوقها، أضفْ إلى ذلك طبيعة المجتمع المحافظة للغاية والانفلات الأمني والسياسي ما يجعل هشاشتها مضاعفة ومركّبة. ورغم ذلك كانت بعض السلوكيات مألوفة للنساء في ليبيا مثل الجلوس في المقاهي والسفر لوحدها وعدم ارتداء الحجاب أو أي لباس معين، ويعود ذلك إلى -سخرية القدر- كما تصف سندس نظام معمر القذافي الذي وفر امتيازات للنساء خلال عهده. ولكن يبدو أن ما كان مألوفا في ليبيا قد يندثر خلال هذه الأيام خاصة بعد تصريح عماد الطرابلسي، الميليشياوي السابق ووزير الداخلية حاليا في حكومة الوحدة الوطنية التابعة لعبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليا والمحسوبة على تيار الإسلام السياسي. حيث كان الطرابلسي قد أعلن خلال ندوة صحفية كان من المفترض تناول موضوع التهريب خلالها عن جملة من الإجراءات الجديدة من بين أهمّها تفعيل قرار إنشاء “جهاز الآداب العامة”، الذي قال إنه سيختصّ بـ”منع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، وتفعيل شرطة الآداب في الشوارع”، وضبط قواعد اللباس، ومنع النساء من السفر دون محرم، وتوعد بملاحقة “ناشري المحتوى غير اللائق عبر منصات التواصل الاجتماعي”، و”إغلاق المقاهي التي تقدم الأرجيلة”، وداعياً المدارس إلى “فرض الحجاب على الفتيات”.
الحجاب، ورقة في يد كل السلطات
يبدو أن تاريخ الحجاب في ليبيا يمثل انعكاسا لتاريخ طويل من السياسات والرؤى الايديولوجية حيث بدأ الحجاب في ليبيا مع الفتوحات الإسلامية وتواصل انتشاره وتقلصه حسب السياقات السياسية التي عاشتها في ليبيا إذ انتشر خلال حقبة الدولة العثمانية ولكن بعد دخول الاستعمار الإيطالي إلى ليبيا ركزت السلطات الإيطالية اهتمامها على المدن الكبرى مثل بنغازي وطرابلس وحاولت إبراز مظهر حداثي لها فشجعت بشكل غير مباشر على نزع الحجاب وتواصل الأمر إلى استقلال ليبيا. ورغم أن ملك ليبيا السابق إدريس السنوسي كان من زعماء الطريقة السنوسية لا في ليبيا فقط ولكن في افريقيا بأكملها وانتهج أسلوبًا دينيا محافظا إلا أنّ زوجته لم تكن ترتدي الحجاب وانطبق الأمر على باقي نساء ليبيا سواء بارتدائه أو تركه ولكن كان الأمر واضحًا بشكل أكثر خلال فترة العقيد الراحل معمر القذافي الذي شجع على سياسات الانفتاح الاجتماعي وكثيرا ما كانت حارساته الشّخصيات من النساء دون حجاب. ولكن بعد الثورة وتصدّر التيارات الدينية المتشدّدة وسيطرتها على عدد من المدن من خلال ميليشياتها كانت نساء كثيرات من غير المحجّبات يتعرضن للمضايقات والهرسلة والتحرش ما دفعهن إلى ارتداء الحجاب من أجل سلامتهن الشخصية. وطالما تأثرت ملايين النساء في منطقتنا من استخدام الحجاب أداةً قمعية أو “تحريرية”، ما يحيلنا إلى ضرورة تفكيك العلاقة بين الحجاب والهوية السياسية التي تُحارب النساء من أجلها تارةً وبسببها تارةً أخرى. يشير الباحث في الدراسات الجندرية رضا الكارم إلى أن علاقة المجتمع الليبي بالسلطة هي علاقة سلطوية، فالسلطة تفرض دائما مفاهيمَها وقراراتِها وتصوّراتِها على كامل المجتمع ودائما ما تكون الجماهير على الهامش، إذ أن أزمة ليبيا هي سياسية واقتصادية وأمنية ولكن السلطة ترى أن المشكلة تكمن مع المرأة مع ربط خبيث بين الأخلاق بالمرأة إذ أن “التجاوزات الأخلاقية” التي تحدث عنها وزير الداخلية الليبي قام بها الرجال مع النساء ولكن الأخلاق تُربط بالمرأة مع تغييب كامل لمسؤولية الرجال لأن المرأة هي الحلَقة الأضعف. يضيف كارم؛ هذا التمييز الجندري قائم على موروث ذكوري مهيمن لأن المرأة ليست في حظ الرجل ووزير الداخلية هنا يبحث عن تشييد وتركيز للهيمنة من خلال تسيّده على واقع النساء.
أي وجاهة للقرار؟
يسعى الطرابلسي عبر تصريحاته إلى خلط الأوراق والتنصل من مسؤوليته بوصفه وزيرا للداخلية في محاربة الانفلات الأمني وانتشار السلاح والمآزق الأمنية التي تعيشها ليبيا إلى الوصاية على ملايين النساء عبر استغلاله لزي النساء الليبيات وهو ما حدث فعلا. حيث أنه في المؤتمر الصحفي المخصّص للحديث عن عمليات تهريب الوقود من ليبيا إلى السودان والذي يبدو موضوعا ملحًّا للغاية التجأ إلى الحديث عن تفعيل شرطة الآداب من أجل ردع أعمال النساء المنافية للآداب وفرض الحجاب الإلزامي على الطالبات في المدارس”، بعد إقراره من قبل وزارة التعليم رغم أن تصريحاته مخالفة لكل ما ورد في الإعلان الدستوري المؤقت في ما يخصّ باب الحريات والحقوق، وهي عبارة عن سلسلة جديدة من القمع والتعسف سيمارسه ضدّ كل من لا يسير حذوه، في دولة بلا أفق وتعيش عشرات الأزمات لن تحلها هذه القرارت، بل على النقيض ستتعمّق الأزمة أكثر وتفتح الباب أمام القمع من جديد ولكن تستعمل المرأة هنا ورقةَ ضغط لإثبات وجاهة سياسية ضدّ وجاهة أخرى إذ لا مطالب ليبيا ولا احتياجتها ستُحَلّ بمثل هذه الإجراءات. وتتصاعد في السياق ذاته ردود الفعل المتباينة بعد الضجّة الإعلامية التي أحدثتها تصريحات عماد الطرابلسي، وزير داخلية حكومة «الوحدة الوطنية» الليبية المؤقتة، المتعلقة بتوصية لفرض الحجاب على طلاّب المدارس، وبينما التزمت الحكومة الصمت، وهو ما عدّه العشرات «مخالفا للإعلان الدستوري الذي يضمن حرية الشخصية للمواطنين».
وردًّا على إعلان وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، ومقرها طرابلس، عماد الطرابلسي، عن إجراءات واسعة النطاق من شأنها أن ترسّخ التمييز ضد النساء والفتيات وتنتقص من حقوقهنّ في حرية التعبير والدين والمعتقد والخصوصية الجسدية، بما في ذلك خطط لإنشاء “شرطة الأخلاق” لفرض الحجاب الإلزامي، أشار بسام القنطار، الباحث المعنيّ بالشأن الليبي في منظمة العفو الدولية بأن هذه الإجراءات تُعدّ بمثابة التهديدات من قبل وزير الداخلية بقمع الحريات الأساسية باسم “الأخلاق” تصعيدًا خطيرًا في مستويات القمع الخانقة أصلًا في ليبيا بوجه الذين لا يمتثلون للمعايير الاجتماعية السائدة. إن اقتراحات فرض الحجاب الإلزامي على النساء والفتيات من عمر تسع سنوات، وتقييد الاختلاط بين الرجال والنساء، ومراقبة اختيارات الشباب الشخصية في ما يتعلق بقصّات الشعر والملابس، ليست فقط مثيرة للقلق، بل تشكل أيضًا انتهاكًا لالتزامات ليبيا بموجب القانون الدولي.”
مضيفا أنه ”وفي خطوة أخرى تستهدف انتهاك حقوق المرأة والمساواة، اقترح وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية إجبار النساء على الحصول على إذن من أولياء أمورهنّ الذكور (المَحارم) قبل السفر إلى الخارج، وتفاخر بإعادة امرأتين ليبيتين قسرًا من تونس بعد أن سافرتا دون “أولياء”. كما أعلن عن خِطط لإنشاء “شرطة الأخلاق” لمراقبة الأماكن العامة وأماكن العمل والتفاعلات الشخصية، في انتهاك صارخ لخصوصية الأفراد واستقلاليتهم وحرية تعبيرهم.” مطالبا حكومة الوحدة الوطنية بإلغاء هذه الإجراءات القمعية المقترحة، وبدلًا من ذلك، التركيز على معالجة أزمة حقوق الإنسان المتفاقمة في البلاد، والتي تتّسم بالاعتقال التعسفي الجماعي والاختفاء القسري والتعذيب والمحاكمات الجائرة. كما يجب حماية حقوق حرية التعبير والتجمع السلمي، واتخاذ تدابير لمكافحة جميع أشكال العنف الجنسي وغيره من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي والتمييز.”
الحرب ضدّ الجميع
لا تنتهي حملة الطرابلسي عند حجاب المرأة بل تسعى إلى ملاحقتها حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة المحتوى الذي تنشره النساء وغلق محلات الحلاقة الرجالية التي توفر خدمات تسريح شعر حديثة ولا تتماشى مع مزاج الحكومة الليبية… يوضح شاب ليبي أن هذه الحملة لم تقم بها أي حكومة في العالم سوى حكومة طالبان.
لا تنتج السلطات الحالية في ليبيا سوى محاولة اجترار أي مواضيع تلهي الرأي العام عن المشاكل الفعلية وهي انتشار السلاح والانفلات الأمني ونفوذ الميليشيات المتزايد وتزوير الأموال. “حتى كان جت مشكلتنا أخلاق النساء، انت جيت لليبيا وشفت على عينك على الألف مراة تلقى وحدة بس مش مغطية راسها، الحكومة تحب أي موضوع تغطي بيه على فشلها” بحسرة توضح سندس وتضيف؛ الأزمة ليست أزمة مرأة، الأزمة في ليبيا ليست اجتماعية أو جندرية أو قيمية أو أخلاقية بل هي سياسية.
ووسط صمت من المجتمع وتأييد كبير للطرابلسي في حملته، ستنطلق عودة دوريات شرطة الآداب إلى العمل في شوارع ليبيا ابتداءً من ديسمبر المقبل، بذريعة الحفاظ على تقاليد المجتمع فيما تشير عدد من المصادر إلى أن هذا الجهاز سيكون من نصيب ميليشيا الردع ذات السمعة السيئة والتي يحفل سِجِلُّها بتاريخ طويل من انتهاك حقوق الإنسان والجريمة والتهريب والابتزاز والقتل. في ما يبدو من المربك للغاية أن تقدم الميليشيات التي سفكت دماء مئات الأبرياء وانتهكت حقوق المهاجرين وامتهنت الاتجار في البشر والمخدرات والدعارة، نفسها حارسةً للفضيلة لتقمع أكثر النساء في ليبيا. في ما يبدو إن مهمة الردع الجديدة لن تكون المحافظة على “الأخلاق” بقدر ابتزازها للنساء وتهديدها لهنّ.