بحثا عن ” الخمسة الذين لحقوا بالدغباجي”
مائة سنة وسنة مضت على ذلك الصباح الحزين، يوم تردّى الدغباجي مبتسما برصاص اثنتي عشرة بندقية فرنسية، وسط زغاريد نساء ودموع رجال أهله وعشيرته ممّن جُلبُوا قسرا، لمشاهدة إعدام بطل من أبطال مقاومة المستعمرين في تونس وليبيا معا. رحل الدغباجي دون أن يكمل الأربعين من عمره، ولكن بمسيرة حافلة من المعارك والكمائن والحكايات التي ألهمت جيلا كاملا من المقاومين المسلحين توّجَ نضالهم في النهاية بالاستقلال، وتعدّتهم.
من الطبيعي أن يجهل جلّ التونسيين اليوم، دقائق مسيرة الدغباجي، و لكنهم مجمعون على أن الرجل فارس لا يشق له غبار، حارب الفرنسيين دون هوادة. أما التفاصيل فلا يعرفون منها غير نزر قليل، كثيرا ما تقتصر على استحضار مطلع قصة مبتورة أحداثها ومجهولة نهايتها وكذلك أشخاصها، هي فقط قصة الخمسة؛ الخمسة اللي لحڨوا بالجرة وملك الموت يراجي. لحڨوا مولى العركة المرة المشهور الدغباجي.
يكفي أن تذكر المطلع حتى يكمل لك جليسك بقية البيت، ولكن ما أن تسأله عن معناه أو عن هوية الخمسة، وعلاقتهم بالدغباجي، حتى يطبق الصمت. أو أحيانا تأتي الإجابة على غاية من العمومية والضبابية كأن يقول لك: هم خمسة فرسان أو خمسة جنود فرنسيين/تونسيين قاتلوا مع/ضد الدغباجي الخ… . المهم أنهم خمسة والأهم أن حضور الدغباجي طغى عليهم، فهم إما خصوم هزمهم أو أصدقاء تابعون له، ولا وجود مستقل لهم عنه.
وتعود شهرة هذه الكلمات في علاقة بالدغباجي لكونها مطلع قصيدة شعبية قيلت في مدح الأخير، سنتحدث عنها فيما بعد. ولكن سرُّ ديمومة هذه القصيدة يعود بدوره لأدائها منذ أواسط ستينات القرن الماضي على طبع الصالحي من طرف أحد أشهر الفنانين الشعبيين التونسيين والمعروفين بأدائهم للأنماط البدوية، “المثلوثي” الراحل إسماعيل الحطاب (1925-1994). وليكتب الخلود على إثر ذلك للقصيدة وتمسي الأغنية التي عُرفتْ اصطلاحا بملحمة الدغباجي واحدة من أهم أغاني الحركة الوطنية والمقاومة الشعبية وأكثرها شهرة على الإطلاق.
في هذا المقال سنحاول تتبع الجزء المنسي من قصة الملحمة، لن نتحدث عن الدغباجي الشهير ولا عن مغامراته ومسيرته في كُلّيّتها فذلك منثور في الوثائق والكتابات، ولكننا سنتحدث عن أولئك الخمسة المنسيين وحقيقتهم وعلاقتهم به وما بقي من حضورهم في الذاكرة المحلية، وسرديتهم الخاصة قبل أن تنسفها السردية الرسمية والشعبية (هي واحدة من المرات القلائل التي توحدت فيها السرديتان) للاستقلال والحركة الوطنية.
الجلبانية والمسار المأساوي للخمسة
في استقائنا لأحداث معركة الجلبانية ، نحن مدينون كُلّيًّا لمحمد المرزوقي الذي ألف أقدم وأهم عمل حول الدغباجي وسيرته. ونحن نعود له كمصدر وحيد بخصوص هذه الواقعة أساسا لكونه قد جمع جل الروايات حولها: رواية علي المرزوقي الذي كان معتمد بلدة مطماطة والتي وقعت ضمن مجالها الترابي هذه المعركة والذي وثقها في تقرير له بتاريخ 7 جويلية 1967 ورواية المبروك بن مفتاح رفيق الدغباجي والمشارك إلى صفه في المعركة ورواية عمر كريد الذي شارك بدوره فيها إضافة إلى وثائق الصحف الفرنسية المحلية وقتها وبعض وثائق الأرشيف التي اطلع عليها[1].
مطلع العقد الثالث من القرن الماضي، وتحديدا يوم 1 جانفي 1920 قام الدغباجي بقتل المجند “بولو” وهو عريف بالجمارك الفرنسية رفقة عونين له، لتنطلق على إثر ذلك حملة عنيفة وطويلة لإلقاء القبض على “الفلاڨ” المارق، ومعها ذاع صيته وعلت نجوميته وبطولته بين القبائل والفرس وبلغت أوجها خلال معركة المغذية يوم 6 أفريل من نفس السنة حين واجه رفقة مجموعة من المقاتلين (تختلف الروايات حول عددهم، فهم تارة 12 وتارة أخرى 15) حوالي 300 مقاتل من القوات الحكومية، أغلبهم من الصبايحية المحليين، تحديدا قبيلة بني زيد التي ينتمي الدغباجي بدوره لها. وبتواطئ من أعيان وأبناء القبيلة، تمكن من الفرار وقصد الجبال الوعرة.
لتجد القوات الفرنسية نفسها في موقف محرج، قد يعزز من جرأة السكان المحليين على التمرد ضد سلطاتها. لذلك عززت من فرق الجندرمة الفرنسية والصبايحية من مختلف قبائل بني زيد وورغمة ومطماطة على امتداد منطقة الجنوب الشرقي سعيا لإلقاء القبض على الدغباجي ومن معه. ومن بينهم، رئيس مركز مطماطة الكابتن “سول” الذي أشرف على توزيع عدة دوريات من بينها دورية صبايحية تتكون من عشرة فرسان يترأسها الشاوش المبروك بن أحمد الحرابي، محور قصتنا.
تفطنت الفرقة لكون الدغباجي بصدد عبور جبال مطماطة جنوبا، ومساء اليوم الحادي عشر من أفريل انطلقت في تتبع أثره وسط القرى الأمازيغية القديمة وصولا لقرية “تشين” أين بلغهم خبر مفاده أن الدغباجي جريح في شرذمة من أصحابه المنهكين دون زاد أو ذخيرة. ضاعف الخبر من حماس الفرقة وأرسلوا الخبر لمطماطة طلبا للمدد، أما هم فجدّوا في الطلب وسارعوا نحو “المكتوب”.
عتبة وأبو جهل وبدر مرة أخرى
من قرية “تشين” انطلقت الفرقة في مطاردة وتتبع آثار الدغباجي نحو دوار المحاريق صباح اليوم الموالي ثم إلى وادي بوالرصف جنوبا وهكذ إلى أن بلغت الحدود الجنوبية لجبال مطماطة أين تخرج المطاردة من النطاق الترابي الراجع لهم بالنظر وتدخل مجال مركز آخر هو مركز مدنين.
هنا أعاد التاريخ حوارا قديما سمعناه قبل 1400 عام من ذلك الزمن وسعت المرويات وكتب السيرة الإسلامية على تكراره والتأكيد عليه قصدا. حوار دار يوم بلغت قوات قريش عين بدر، وهناك بلغها نجاة قوافلها – التي خرجت فزعا لتخلصها من سرايا محمد- وبالتالي ما عاد للقتال حاجة. حينها وقف عتبة بن أبي ربيعة سيد قريش وسط الرجال مرغبا إياهم في التعلل بذلك والانسحاب قائلا: خلوا بين محمد وبين سائر العرب. ليجيبه “أبو جهل”: انتفخ والله سحره. أي جبنت وخفت يا عتبة[2].
هذه القصة التي سمعناها بأكثر من رواية وفي أكثر من موضع، تتكرر بشكل تراجيدي مع الخمسة، إذ أنهم ما أن بلغوا حدود مطماطة الجنوبية حتى طلب شاوش الفرقة المبروك من المجموعة التوقف وأبدى رغبته في العودة إذ لم يعد الأمر من اختصاصه. عندها أجابه الكيلاني، -أشهر عناصر المجموعة- هازئا: “هذا ماهوش تنييل الكتاتين واللّهيد بالخيل في زبابيل مطماطة يا شاوش” ومعنى الجملة هو التالي: هذه المطاردة ليست مثل الذي اعتدت عليه، من ارتداء الثياب الناصعة واستعراض للخيل وسط أزقة بلدة مطماطة.
تحدي الشجاعة هذا في السياقات القبلية لم يكن أبدا مجرد تهكم وسخرية بل هو تشكيك جدي وخطير في زعامة وقيادة المبروك بل ورجولته. وكما أغضب قول أبي جهل عتبة ودفع به لمقدمة المواجهة والمبارزة، ترك تهكم الكيلاني في نفس الشاوش المبروك نفس الأثر، ليأمر بمواصلة المطاردة. وبعد منتصف النهار بقليل، بلغت المجموعة منطقة الجلبانية أين حمّ بهم القضاء.
معركة حسمت قبل أن تبدأ
الساعة الثانية بعد الزوال وخلال عز الظهيرة، الدغباجي الجريح ورفاقه الثلاثة بصدد شيّ أرنب بري. وكوكبة من عشرة فرسان تلوح في الأفق. أسرع أحدهم لوضع الأرنب في مخلاته وصعد مع رفيقين له على ربوة قريبة، أما الدغباجي فقد اختفى أسفلها بين شجيرات صغيرة. لم يترجل الفرسان ولم يخططوا لمحاصرة المجموعة وتطويقها، بل بكل حماس هجموا فورا راكبين، لحسم معركة سهلة مع عدو منهك وأعزل أو هكذا ظنوا.
غير أن دقائق قليلة كانت كفيلة بكسر عقد الفرسان تحت هول الرصاص القادم على غرة من أعلى الربوة وأسفلها. وسقط من العشرة خمسة، هم سبب شهرتها، وتنسب القصائد قتلهم جميعا للدغباجي. غير أن الواقع على خلاف ذلك، إذ يؤكد رفيقا الدغباجي في شهادتهما أن أشهر المهاجمين، الكيلاني قد قتل من طرف عمر كريد بعد أن حذره الدغباجي صائحا بقدومه. ثوان معدودات كاد فيها الكيلاني أن يقتل عمر كريد لولا أن رصاصة الاخير سبقته إلى بطنه، ووسط حشرجة الموت حاول بيد مرتعشة وبيأس توجيه ضربة أخيرة نحو خصمه، فأردفه كريد برصاصة ثانية. وعندما حاول افتكاك بندقيته وهو ميت، تشبثت يدا جثة الكيلاني بها ولم تتركها.
أما شاوش المجموعة فقد أصابه رفيق الدغباجي الآخر وقتل جواده وبينما سارع نحوه مساعدوه لرفعه على جواد آخر، كان يصيح بأعلى صوته: خذيتوني! أي أهلكتموني، لاعنا تورطه في كل ما وقع. وما أن استقر فوق الجواد وأرسل تنهيدة راحة: ” إيَّه” حتى تلقى وابلا من الرصاص، خرّ على إثره صريعا. وقتل معه محمد بن سعيد ومحمد الجليدي والجيلاني البلعزي، أما جماعة الدغباجي فلم يقتل منهم أحد.
هؤلاء هم الخمسة المشهورون على ألسنة الناس وذلك هو مصيرهم، ونحن نعلم أن ثلاثة منهم لم يقتلهم الدغباجي حتما بينما بقيت إمكانية قتله للإثنين الأخيرين واردة لكليهما أو لأحدهما على الأقل. فيما تمكن الخمسة الآخرون من الفرار.
من هم؟
يضع المرزوقي قائمة بأسماء قتلى الموقعة الخمسة وأسماء آبائهم وأجدادهم وقبائلهم، بل وحتى المنطقة الترابية التي يرجعون لها. وبتفحص هذه القائمة نجد أن الشاوش المبروك ينتمي لعرش الحرابه بينما ينتمي الكيلاني لذرية المحضي من الحوايا أما محمد بن سعيد فذكر أنه يعود لنفس المجال وفي الإجمال فإن هؤلاء الثلاثة يعودون لاتحاد قبلي واحد هو حلف ورغمة، أكبر أحلاف الجنوب التونسي القبلية. أما القتيلان الآخران فقد ذكر أنهما من سكان جبل مطماطة وأحدهما من أصول طرابلسية قديمة. وكل هذه المكونات القبلية تختلف عن المكون القبلي الذي ينتمي له الدغباجي أي قبيلة بني زيد وهو المعطى الأهم لتفسير ما سيلي.
ذلك أن السلطات الاستعمارية في سعيها لتثبيت هيمنتها على المجال التونسي خاصة الجنوبي منه، عملت على الاستفادة من الانشقاقات والصراعات القبلية القديمة التي يعود بعضها لقرون طويلة، ومن ذلك أنها عمدت لتسليح وتجنيد فرسان قبيلة ورغمة منذ السنوات الأولى لانتصاب الحماية ودمجهم ضمن قواتها المخزنية وفرق الصبايحية بهدف ضمان تأمين الحدود الشرقية مع طرابلس من جهة وردع القبائل المناهضة لها من جهة أخرى[3]. وعلى رأس هذه القبائل قبيلة بني زيد والتي كانت الخصم الرئيسي لورغمة طوال القرن الثامن عشر بل وقبله، منذ انقسام الجنوب كله إلى صفين متحاربين هما صفا يوسف وشداد وقد تواصل ذلك الصراع الدموي إلى فترة الحماية[4]. وعليه لم يكن مستغربا انتماء فرقة الصبايحية هذه في أغلبها لهذه القبيلة واشتداد رغبة أفرادها في مواجهة خصومهم التاريخيين. وليتمخض كل هذا في النهاية على حقيقة مؤسفة مفادها أنه لم يخض أو يجرح في هذه المعركة ولو مستعمر واحد، بل إننا نلمحه بعيدا هناك متواريا في الخفاء ومذكيا لنار الصراعات القديمة. فقط بعد مدّة من الزمن ستتوحد القبائل صفا واحدا ضد العدو في قصة أخرى غير هذه.
أي ميراث بقي للخمسة
يشير المرزوقي لانتماء أغلب أفراد المجموعة لقبيلة اشتهرت خلال تلك الفترة بكونها المعقل الرئيسي للشعر البدوي في جنوب تونس. ولذلك لم يكن مستغربا أن يسارع بنو عمهم للثأر لهم ولو رمزيا في ميدان الشعر. ومع ذلك، فالملاحظ أن جل القصائد التي بلغتنا في رثائهم، كانت خليطا من مشاعر شتى: الأسى لفرسان القبيلة والإعجاب بقاتلهم في الآن نفسه ولعل أبلغ مثال على ذلك ما نجده لدى التومي الغبنتني أحد شعراء قبيلة ورغمة، الذي صب عار الهزيمة على الفرسان الخمسة الذين فروا من النزال في مقابل الثناء على شجاعة القتلى وبطولة الدغباجي:
“شنايا في اللي ماتوا خاطي ** ماتوا موت حلال
طاح بيـــــهم بــــــــــنداق وعاتي ** نجـــــــا كان الذلال[5]“
هذه القصيدة وغيرها، دليل على اضطراب، لم نعهده أو نألفه لدى شعراء القرن 19 ممن كانوا مؤمنين بعدالة قضاياهم ومعاركهم تجاه جيرانهم وخصومهم. ولكن هنا، يتسرب ببطء معطى جديد، يسمو على علوية الانتماء القبلي، ولو أنه لم يظهر أو يتبلور بالنحو الكافي في تلك الفترة، ألا وهو معطى الانتماء والإيمان بوطن واحد وبمعركة واحدة ضد المستعمر، العدو الحقيقي. وبالتالي التعاطف الضمني مع صدق قضية وبطولة الدغباجي الذي لا يحضر ضمن هذه القصائد إلا في مظهر الفارس الهمام. بينما لا يذكر قتلاه إلا وألحق بهم الشعراء معاني الحسرة على الشهامة والبطولة الضائعة في غير محلها، وفي واحدة من هذه القصائد نجد نجوى فريدة على لسان الدغباجي، قبل أن يطلق النار على خصومه، يتحسر فيها على ما آل إليه الأمر من قتال بين الإخوة:
” هذي شهوة للمتعــــــــــني ** ودعوة شـــــــــر كلوف
علاش نقاتل وتــــقاتلني ** يا كـــيــــــلاني شــــــــــــوف”[6]
في الختام، أي اسم علق في الأذهان؟
لم تكن تونس المستقلة حديثا، مطلع ستينات القرن الماضي، كيانا متجانسا بالشكل الذي نعرفه اليوم. والأهم أنها لم تكن موحدة كليا وراء الزعيم الجديد الحبيب بورقيبة، خاصة في الجنوب، أين بقيت قلوب كثيرة ميالة لبن يوسف وجماعته، خصوم بورقيبة القدامى والمشككون في زعامته بل وحتى في وطنيّتهِ. لذلك كان على الرجل، أن يثبت جدارته ويوحد “شعبه” خلف رايته، وهنا جاء التحدي الكبير، زيارة الجنوب الطويلة من قابس لتطاوين، مواطن اليوسفية والفلاقة والقبائل صعبة التطويع. وزيارة مثل هذه، كان لابد لها من التحضير الكثير، لوجستيا وأمنيا ولكن و خاصّة دعائيًّا، وهنا عرف الرجل بفطنته كيف تؤكل الكتف، ليختار بعناية مرافقيه في الرحلة ويردفهم بمرافق استثنائي، لم يعهد مثله في ركاب الزعيم، ألا وهو اسماعيل الحطاب، الأسمر، ذو الملامح والجذور البدوية الواضحة وصاحب واحدة من أفضل الحناجر التي تغنت بالصالحي يوما.
ووجود هذا البدوي، رفقة الزعيم خدمه من نواحٍ شتى: أولها شهرته وقدرته على استقطاب المعجبين به للحضور للاجتماعات العامة للاستماع لأغانيه، ولكن كذلك للاستماع لخطب الزعيم. أما ثانيها، فرسالة مفادها أن الحبيب، حتى وإن كان من خلفية حضرية وذو تكوين غربي إلا أنه متصالح مع فنون وثقافة البدو وسكان القرى والقبائل. غير أن الهدف الأهم، هو منح الأخير شرعية النضال خاصة في بعده المسلح وذلك عبر قرنه بأسماء كبرى في ذاكرة التونسيين خاصة البدو منهم وعلى رأسهم الدغباجي. وهنا وقع الاختيار على قصيدة “الخمسة اللي لحقوا بالجرة” لعلي الورثة الحمروني، ليتم تحويلها لملحمة غنائية بدوية، يغنيها الحطاب في محافل رحلة الزعيم ثم في الإذاعة الوطنية الوحيدة، التي منح ضمنها حيزا لم يمنح لغيره[7]. وبهذا انتشرت وتكرست في الأذهان السردية الرسمية للمعركة وللفاعلين فيها دون غيرها. فبالرغم من تفوق قصائد أنصار الخمسة عدديا وقيمتها الأدبية العالية، إلا أنه لم يكتب لها الدوام باستثناء ما نجح المرزوقي في تخليده كتابة. في حين دامت قصيدة على الورثة وتجاوزت شهرتها الحدود القبلية وفككتها. والفضل في ذلك لا فقط لبطولة الدغباجي ولكن لقدرة الدولة الوطنية على فرض سرديتها ومسح ما يشذ عنها. ويسفر عن كل هذا، لوحة من ست أشخاص، أحدهم واضح الملامح وزاهيها، في حين يتشابه الخمسة في انطماس ملامحهم وكأنهم تكرار لشبح خُط بقلم رصاص.
[1] في أغلب أقسام هذا العمل، سنعود لمحمد المرزوقي سواء في للحديث عن معركة الجلبانية أو بخصوص القصائد التي قيلت فيها ونقصد بعمل المرزوقي دراسته:
الدغباجي، ضمن محمد المرزوقي: الأعمال الكاملة، القسم الأول ص. ص. 125- 310، دار محمد علي الحامي، صفاقس 2012
[2] ابن هشام، السيرة النبوية، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001، ص425
[3] محمد الأزهر الغربي: تونس رغم الاستعمار، دار نقوش عربية 2013، ص91
[4] محمد علي الحباشي: عروش تونس، منشورات سوتيميديا، أكتوبر 2016، ص51
[5] أي أن العار لا على الخمسة الذين ماتوا موت شرف عندما نازلهم فارس ماهر، بل على من اختار الفرار والذل
[6] أي أن ملاحقتكم لنا لا داعي لها وتصرف فضولي مهلك. فلماذا يا كيلاني نتقاتل إذا؟
[7] هيكل الحزقي، اسمع ياللي تحب تغنّي | عن مسيرة إسماعيل الحطاب وإرثه، مجلة معازف، 11 مارس 2022