بلڨاسم بوڨنة: شمس الصحراء التي لا تغرب

مايو 2024

ما إن بلغني خبر رحيله، حتى عادت بي الذاكرة مباشرة إلى رجع بعيد، لسنوات الطفولة الأولى، لأصيل كل أحد و”الفيات” السوداء تتهادى وسط سباسب “عمرّة” وفجوج ڨفصة و ڨمودة. وهدوء الرحلة الرخيم، لا تقطعه غير الكاسيت وصوت بلقاسم بوڨنّة يشدو: عندي سبعة سنين تعدوّ خلوڨي فدوّ. وما أن تنتهي الأغنية، حتى يعيد الوالد تشغيلها من جديد، وهكذا تمر الرحلة كطقس أسبوعي ثابت، وسنوات بوڨنّة معها لا تمضي.

ولسنوات لم أعرف سوى صوته، وما حدثني الكبار عنه: معلم مهيب، مقيم في وطنه دوز من بلاد قبلي أقصى جنوب تونسي لا يغادره، ولا ينزع الشاش البدوي الأسود عن وجهه ولا يغني إلا متلحفا إياه. كبرتُ على تلك الصورة، وفي حدود 2010 شاهدته أول مرة، وإلى اليوم بعدما غادرنا، لم تتغير ملامحها. ينبيك عنها صوته قبل طيفه.

 

معلم … ثم فنّان

 

حلّ الشاب القبلاوي بالعاصمة التونسية من أجل دراسة الحقوق عام 1984. لم يكن ذلك العام كغيره، إذ كان مشحونا بالضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، ومن بلاده قبلي التي انطلقت منها شرارة انتفاضة الخبز. قبل أشهر دخل تونس في أجواء سيصفها فيما بعد بكونها أبعد ما تكون عن تشجيعه على الاستمرار، لم يستفض في الحديث عما ألمّ به على وجه التدقيق ولم يرغب في ذلك. ولكن الثابت هو أنه ترك المدينة ومعها حلم القانون دون أن يكمل العام، ودون رجعة. وكأنه نخلة، لا تحيا ولا تثمر خارج واحتها، عاد نحو وطنه الأصلي دوز، آخر الواحات وبوابة الصحراء.

وبشهادة الباكالوريا التي حصّلها، تمكن من الالتحاق بسلك التعليم الابتدائي، الذي لم يغادره إلا مع التقاعد. وإلى آخر حفلاته، ارتبط اسمه ولافتات المهرجانات والتكريمات التي شارك فيها باسم “المربي الفنان”. لازمته الصفتان، حتى أمسى من العسير الفصل بينهما، على الركح أمام الجماهير والمحبين: هيبة معلم لا يتغنى إلا بالغزل “المحتشم” متجنبا “أخضره” ما قدر، ولا يبتسم إلا احتشاما ولا تحركه الألحان إلا قليلا. وإن تحدث، يأتي حديثه سلسا وخليطا بين عربية فصيحة ولهجة سليمية هي للفصاحة أقرب، حتى أمسى الطبع لصيقا به أكثر من أغانيه نفسها.

ولا أدل على ذلك من قصة “على الله”. لسنوات عديدة، لم يُعرف – إلا بين العارفين بالرجل والمتابعين لكل إنتاجه – أن الأغنية التي صنعت شهرة مطربة كإيمان الشريف وزادت من شهرة أخرى كأمينة فاخت، هي بالأساس أغنية لبوڨنة من تلحينه وكلماته. استغراب مرده بالأساس، ما حام بتلك الإعادات من جوّ استعراضي وإيقاعي، يختلف كليّا عما يسود عوالمه من هدوء وسكون. ربمّا لم يصرح بوڨنة علنّا برفضه للشكل الذي أمست عليه أغنيته – وقد زعم كثيرون أنه عبّر عن ذلك – إلا أن جمهوره فعل. ففي حفلة أقيمت له بقاعة المسرح البلدي بالعاصمة، بثّت على المباشر، يوم السابع عشر من ماي 2009، تقدمت له وسط العرض إيمان الشريف بباقة ورود، أرادت أو زعمت أنها هدية للرجل الذي منحها بأغنيته الشهرة والنجاح. قبل الفنان الخجول باقة الورد، ولكن الشابة لم تغادر الركح، بل طلبت منه أن تشاركه غناء على الله. في تلك المرة لم يرفض بوڨنّة، ولكن الرفض جاء من وسط الجماهير، تعالى التصفير والاستهجان، ولم يتوقف إلى أن نزلت.

رفضت الجماهير ما عدّته انحرافا بعوالم بوڨنّة، ربما نجحت الأغنية أكثر معها ومع غيرها، وربما تلقى إعجابهم – هم أنفسهم – أكثر بصوتها، ولكن ذلك لا يمكن أن يبرر المساس بالصورة الثابتة – والراسخة- للمعلم الرصين، الذي لا يشاركه في الغناء أحد. وفي حفلة أخرى على مسرح قرطاج لأمينة فاخت، علمت الأخيرة أن بوڨنة وسط الجمهور، فطلبت منه مشاركتها في الصعود على الركح لغناء على الله. ولكن هذه المرة، كان هو الذي رفض قائلا: “أنا معلم”. لتنزل له المصدح ويشدو الصوت وحده بين الجماهير.

 

ذاكرة النجوع والواحات

 

لم يغن بوڨنّة بغير لهجته ولسانه. وربما هنا تأتي خصوصية مسيرته على خلاّف الكثير من أقرانه، ممّن اختاروا ولوج الفن من باب ” اللينغوا فرنكا” عسى أن تصل أصواتهم لأكثر ما يمكن من السمّاعة، قبل أن يعودوا فيما بعد للمحلي، أحيانا بعد النجاح لإثراء مسيرة، وفي أحيان أخرى بعد الفشل.  أما بوڨنّة، فلم يغادر أصلا حتى يعود، لم يجرب الوتري أو الطرب المشرقي، ولا حتى استهوته الأنماط الشعبية الأكثر رواجا في وقته، من البداية حدد مساره: إيقاع البادية الصحراوي ومدونة الشعر الشعبي، وخاض فيه ولو كلفه ذلك فيما بعد ما كلفه.

في تسجيلاته، يحضر العود طاغيا على امتداد الأغنية، لا يعضده غير الضرب على الدف أو غيره فيما ندر، لتكون نتيجة ذلك: زهد الماعون وهوادة الإيقاع، مما يفرضهما هدوء الصحراء وتقشف البادية. أما فحوى أغانيه ومنطوقها فأساسه قصائد الملحون ممّا أبدعه شعراء المرازيڨ ويردده حفظته من ذاكرتهم وذاكرة محيطهم: جنوب تونس وغرب ليبيا وشرق صحراء الجزائر، ولا يغادرها بوڨنّة إلا للتغني ببنات كلماته وقصائده الخاصة. وفي ذلك لا يشذ عن محيطه، بقدر ما يرى نفسه امتدادا واستمرارا له.

وبخلاف قصائده الخاصة، تغنى بقصائد لشعراء قبيلته الأم ” المرازيڨ” وعلى رأسهم المناضل محمد بن محمد الثابت أو المعروف بالطويل، والذي لم يصلنا من تسجيلاته الخاصة إلا القليل. ومع ذلك، خلّد بوڨنّة قصيدة من قصائده، أمست أشهر في الذاكرة من صاحبها ألا وهي ” سبعة سنين “. وإلى جانبه، غنّى بوڨنّة “علَيْ دَمّاعة” وهي محاورة شعرية بين حمد بن سالم وابنه أحمد البرغوثي، الرجل الذي سيصفه المرزوڨي فيما بعد بكونه أحد أكبر شعراء الملحون التونسي قاطبة، وسيعود له بوڨنّة في مناسبة أخرى مع أغنية الأسد أو “الصيد”. وإلى جانبهما الاثنين، غنّى بوڨنّة نصوصا أخرى كثيرة لشعراء كثر، يقصر المجال عن ذكرهم جميعا، نصوص بعضها يعود للقرن التاسع عشر، وأخرى حديثة عايش الفنان كتابتها. وما يهم في الحالتين، أن بوڨنّة لعب دورا، تعدى مجرد التغني بمدونة محلية هي بالأساس شفوية – باستثناء بعض القصائد – إلى حفظها ونقلها لأجيال أخرى.

وبذلك، كانت كل مسيرته تجسيدا لذلك الحلم أو الهدف المرسوم منذ البداية، أن يكون صوتا لجهته وناسه ولذاكرتهم. وفي واحد من آخر حواراته، عندما عُرضت أمامه مسيرته وسُئل: هل ندمت يوما على اختيارك المحلية على الشهرة؟ كانت الإجابة بسيطة وصادقة: “لا”. ذلك أن أصالته تلك، ذهبت به لما هو أبعد، وبها أشاع المخصوص وعمّمه.

 

بعيد برّك … الصحراء، بل أبعد

 

كانت “يا سمح الصيفة” أولى أغاني بوڨنّة التي دشّن بها مسيرته الفنية، وإلى اليوم مازالت واحدة من أشهرها وأكثرها تعبيرا عن هويته الفنية والجغرافية. تعود قصة الأغنية لقصيدة علي بن خليفة البازمي – نسبة لبازمة من وطن نفزاوة – التي وضعها عام 1937، أثناء تجنيده القسري من طرف جيش الاحتلال الفرنسي في منطقة برج “البوف”، برج الخضراء اليوم. وقتها حنّ البازمي لأهله وناسه، وخاصة محبوبته، حتى رقّ له الضابط الفرنسي المشرف وسرّحه للعودة لوطنه. من أقصى نقطة في جنوب تونس إلى نفزاوة، توجّب على الشاب أن يعبر جبال الظاهر وكثبان العرق الكبير وحيدا، لولا دليل اشترط عليه أن ينشد له على امتداد الصحراء قصيدا يخلّد الرحلة ومراحلها. وهكذا أنشد العاشق، وهو الذي لا يعرف الشعر إلا حفظا، ما ستبقى في الأذهان جرّادة يكررها الشعراء –كعلي الصليعي– إلى حدود زمن بوڨنّة الذي لحّن ما لم يقدم عليه أحد:

رڨراڨ مشّر ** أصحان وظهرة حداري

ما فيه شجر ** وغيم متولڨ غبّاري

كان غيمه متوڨ وإمروڨ ** والڨلب امشوڨ وامنوڨ

لبلاد مسوڨ ** مستاحش من ليه عريفه

بعيد برّك …

 

من بين كل أغانيه، كانت تلك الأصعب – على المؤدي والسامع معا – لما طغى عليها من حوشي الكلام وفريده من جهة وللمعجم الوصفي الهائل ضمنها، وكأنها مسح طوبوغرافي دقيق لجغرافيا الصحراء التونسية، ومنازل بدوها وحضرها. صحراء وعرة وبرّ يكيد الراكب لم يقدرا على كسر عزيمة محب رابط الرملة في أصداره ولا يحضّه غير بلوغ بو وشام خضاري. ومع ذلك ففي سمح الصيفة وغيرها، لا تأتي الصحراء مجرّد خواء فارغ، حتى أقسى مواضعها وأقصاها لا تخلو نهايتها من مواطن لأهل أو أحباب، بعضهم من بني العم وبعضهم من أنساب الصحراء، وبدوي الصحراء للبدوي نسيب:

يا لوث الريڨ ** من مرسوع الشرابه

جي لمشيڨيڨ ** حثر بلادي وترابه

ناس مرازيڨ ** يدلوا الذاهب لصوابه

 

على امتداد مسيرته غنّى بوڨنّة لهم وللصحراء كوطن بعيون ناسه، ناس مرازيق، عشيرته ومعهم “عذرة” و“غريب” وغيرهم ممّن عمّر الصحراء لقرون، وبثّ فيها الواحات والحياة. غنّى لهم في أيام الرخاء: هذيكا دوز بلاد الهمة والطربة، وبكاهم يوم قسى عليهم الزمن والمحتل:

 

خلتنا جمّلية ڨومية ** أولاد مرزوڨية وعذرية

من رابع فيّة ** أولاد غربة ما ندير حسيفة

بعيد برّك …

 

وفي “ما ابعد جبل فاطمة” وهي من النصوص المشتركة بين قبائل شرق طرابلس وجنوب تونس، رثى بوڨنّة ما آلت إليه نجوع الصحراء وقبائلها، ممن مزّقهم الحنين وشرّدهم القحط، إلى ما وراء الجفارة والصحراء الفسيحة:

نبكي على نجع رحلت أولاده ** أمالي السيادة

طرده الجدب ** رحّله من بلاده

نبكي على نجع أهله توارى ** خش الجفارة

طرده الجدب ** رحّاه من أوكاره

 

عن فارس لا يترجّل

 

“وما زلت في الكون راكب حصاني”، بهذا ختم بلقاسم واحدة من النجاوى القليلة التي تحدّث فيها عن نفسه وحالته الصحية الصعبة علنا. لم تعهد عنه الشكوى، وهو الذي لم يلق الدعم في بداياته حتى اضطر للاقتراض لإصدار ألبوماته ولا أثناء مرضه، ولا الاعتراف الرسمي في خواتم مسيرته، حتى أنه لم يغن على ركح قرطاج مطلقا. ومع ذلك لم يشتك، يحمله على ذلك شموخ بدوي وصبر صحراوي وتزهد مربٍّ.  وإلى آخر أيامه، لم يرد لمحبيه أن يعرفوه بغير صورة رسمها يوما، وسط الزغاريد والبارود لنفسه:

ايدي على الخير ماهي بخيلة ** ذراعي طويلة

وفاي في الكيل عند المكيلة

جيد ولكن امثالي قليلة ** بكل الدويلة

شامل وحامل ** هموم القبيلة

 

وفي الخامس من ماي، غادرنا بوڨنّة من تبعات قصور كلوي زامنه لسنوات. ووسط أهله وناسه، دفن في دوز التي لم يغادرها ولم يختر عنها بديلا، دون جنازة رسمية. فقط الآلاف من أهله ومحبيه. ومثّل آخر البدو وأبطال الصحراء الحقيقيين والخياليين: متعب الهذّال وغيره، غادر بوڨنّة في صمت، ولكن بهيبة… ليدخل الصحراء مرة أخيرة وإلى الأبد.