روبرت باك: الحرية سعي لا مسعى

نوفمبر 2024

 

 

“أنا متشائم بمعايير العقل والذكاء، ولكنني متفائل بالإرادة” هكذا كتب غرامشي –مع تصرفنا قليلا في ترجمة كلماته- خلال الثلث الأول من القرن الماضي. وبوصفه مثقفا ومنظرا ماركسيا، تحدث غرامشي عن ذلك الانفصام بين النظرية الفكرية وما قد يطرأ عليها من حسابات عقلانية لموازين القوى وللمرحلة التاريخية والظرفية الاستراتيجية وغيرها من المعطيات التي قد تجتمع في النهاية فقط في اتجاه إجهاض كل حلم بالتغيير أو تحقيقه على أرض الواقع. وفي مقابل ذلك تأتي الإرادة، كمعطى غير عقلاني، بل عاطفي، لتكسر كل جمود أو حتمية منطقية عقلانية، ولتحوّل الحلم إلى حقيقة. هذه النظرة المثالية للإرادة، وتجلياتها على الميدان من شعارات: ثورة، مقاومة، فعل سياسي، هي بالأساس روح الفعل اليساري وكنهه الدائم، والوحيدة القادرة على إحداث الفرق أو على الأقل مواصلة الحراك والمحافظة على جذوة الأمل بعبارات غرامشي.

وعلى امتداد تاريخ الحركات اليسارية، تكرّرت الأمثلة الكاشفة عن هذا التّمفصل بين الخضوع المطلق للنّظرية أو تمثّل المبادئ والقيم والمثل العليا كأسلوب معيش ورغبة في الفعل والتغيير الملموس ولو على الصّعيد الفردي. وإن كانت المسارات النّظرية والتّجارب المهيكلة وفقها قادرة على إنتاج حركات جامعة ومنحنا أساليبَ وأدواتِ تحليلٍ منهجية، إلا أن المسارات الفردية لأولئك الذين “فعلوا” وفقا للمبادئ والمثل، تمنحنا قصصا تروى وتذكر وتستحضر نماذجَ للبطولة والإرادة الحرة. ومن تلك القصص، قصة روبرت “راؤول” باك.

 

المجد لمن قال لا

 

بلغت “حرب الخنادق” مرحلة من العبثية والعدمية عام 1917، ومع معارك “باشنديل” وخاصة معركة “شومان دي دام” في السادس عشر من أفريل ذلك العام، تحول الأمل في كسر جمود الحرب العالمية الأولى إلى وهم، لم يسفر سوى عن عشرات الآلاف من المجندين الضحايا الرائحين هباءً وسط الطين والمستنقعات. قلة فقط رفضت الرضوخ والاستمرار في خوض معركة عقيمة إلى ما لا نهاية، ففي حين تمكن قلائل من التمرّد والفرار، لم يختلف مصير أغلبهم عن نظرائهم المسجّين في الطين، فقط مع تغيير المكان والجلاد: رصاص الوطن ومنصة الإعدام، أو تدخل رحمة السماء -أو المحكمة العسكرية- التي أسعفتهم بالسجن أو النفي بدلاً عن الموت. ومن بين هؤلاء، كان الشاب ذو العشرين عاما، فاحم الشعر، متّقد الحماس، روبرت باك.

ولد روبرت في الحادي عشر من سبتمبر 1897 في بلدة “أرباجون” من ضواحي باريس، بلدة صغيرة عرفت حركية بارزة في القطاع الحِرَفي والصناعي المتوسط أواخر القرن التاسع عشر. وفي هذا المناخ العمالي نشأ الطفل لوالدين من صغار العمال، حيث اشتغل والده لويس في قطاعيْ النجارة والبناء ضمن ورشات وحظائر البناء، أما والدته ماري فقد امتهنت تنظيف الثياب إلى حين وفاتها السريعة عام 1907، أين تركت طفلها ذي العشر سنوات وحيدا. وفي هذه الظروف لم يتمكن لويس من القيام بشؤون ابنه، ليضطر إلى إدخاله أحدَ الأديرة، أين واصل دروسه الدينية في إحدى مدارس مدينة “شارتر” الدينية، إلى حدود سنة 1911، التي اضطر إلى مغادرتها بعد استبعاده منها.

بعد مغادرته الكنيسةَ، يسقط من جلّ المصادر، الفرنسية والعربية على حد السواء، الحديث عن السنوات الأربع التي أمضاها الفتى وحيدا، وكأنها غير مهمّة أو غير مؤثرة في مسيرته وتكوينه. ومع ذلك فإننا على يقين من أنها كانت حاسمة في انفتاحه على الأفكار والمُثل، التي ستصبغ قراراته فيما بعدُ. ومع سنة 1915، تعود المصادر للحديث عنه، مع بلوغه الثامنةَ عشرَةَ وتجنيده القسري في صفوف الجيش الفرنسي، أين تم توجيهه إلى الجبهة الشرقية، حيث الخنادق. ولمدة عامين شارك الشاب في حرب الاستنزاف المستمرة، ومع فشل هجوم “نيفيل” الدموي، انخرط في حركة شبه عفوية سرعان ما ستعرف فيما بعدُ بحركة “التمرّد الفرنسي“. وهي حركة شارك فيها مئات الجنود الفرنسيين الرافضين للاستمرار في القتال، ومن بينهم “باك” الذي رمى بسلاحه أرضا، وعلى خلاف العشرات ممن تمّ إعدامهم، منحت المحكمة العسكرية حكما مخفّفا، بالسجن لمدة خمس سنوات، خارج التراب الفرنسي. أين وقع نفيه بداية تجاه المغرب الأقصى، قبل أن يقع تحويله نحو معتقل تبرسق غربَ تونس.

وقبل الخوض في هذه المرحلة من حياته، ربما يجدر التساؤل حول السّبب الذي دفع به إلى قول “لا” رغم خطر الإعدام وغريزة شهوة الدم المستفزة. عن هذا الدافع يتحدث “الجنرال برولار” أحد شخصيات “دروب المجد” (1957)، التحفة السينمائية التي خلدت بطولة متمرّدي 1917: “هناك أشياء -على قلّتها- أكثر تحفيزا وتشجيعا من رؤية شخص آخر مقتولا”. في حالة “باك” لم تكن هذه الأشياء سوى النشأة في أسرة مكافحة، وفي كنف أب حِرَفي بسيط ونقابي في كُنفدرالية الشغل الفرنسية، مما جعله يدرك أن العدو الوحيد، هو الفقر والتشرد. وربما الأصداء القادمة من الشرق عن التمرد الكبير في صفوف الحليف الروسي القيصري مطلع ربيع السّنةِ نفسها، قبل أن يتحوّل إلى ثورة عظمى فيما بعدُ. وفي الحالتين، قال الشاب “لا”، لتنطلق بذلك رحلته نحو تونس، ونضال من نوع آخر.

 

من المعتقل إلى “البُرط”

 

في العام الموالي حلّ الشاب بتونس، ليمضي خمسَ سنوات سجينا في معتقل تبرسق. وبحلول عام 1923، تمّ الإفراج عنه. وبدلَ العودة إلى الوطن، قررّ البقاء هناك، غير أن تبرسق -البلدة الفلاحية- لم تكن قادرة على منحه وهو القادم من محيط عمّالي، ما يكفيه من مقوّمات الاستقرار. وبذلك غادر شرقا نحو “فيري فيل“، البلدة الاستعمارية المسمّاة باسم عرّاب الحماية الفرنسية على تونس، قبل أن تهدى إلى الزعيم فيما بعدُ. وفّرت له البلدة كل ما يمكن أن يغريه بالاستقرار: مصانعَ وميناءً بحريا وعمّالا من جلّ ضفاف المتوسط وحراكا نقابيا نشِطا. وبذلك انتقل من جندي متمرّد إلى عامل رصيف في الميناء (البُرط).

وفي الميناء أعاد تجديد روابطه القديمة مع ماضي والده النقابي، إذ سرعان ما التحق بـ “س.جي.تي.و.” أو الكنفدرالية العامة للعمل الموحد. وفي مدة لا تزيد عن السنة، أمسى عنصرا فاعلا في قيادة تحركاتها المحلية، إذ كان من أبرز المتزعمين لإضراب عمّال الميناء سنة 1924. وتحكي الروايات أنه قام، وقد أخذ به الحماس كلّ مأخذ، لامتطاء كتف صديقه ليصيح في العمال بخطبة عصماءـ تحريضا وتشجيعا. وفي تلك اللحظة بالذات، تلقى ومن معه زخّات رصاص أوقعت جنبه قتيلين من العمّال التّونسيين. ومن خلال هذا الإضراب، تعرّف إلى بعض أبرز الوجوه النقابية التونسية المحلية كالطاهر بن سالم ومحمد الخميري وهما من رفاق محمد علي الحامي -اللّذيْن سيشاركانه تأسيس أول حركة نقابية تونسية بعد أشهر قليلة- ومن خلال هذا اللقاء، كان الاحتكاك الأول ل”باك” مع المناضلين اليساريين التونسيين لا الأوربيين. ومن وراء حراكه العمّالي ذاك، خطا خطواتِه الأولى في العمل السياسي، في أرض بعيدة ومختلفة عن وطنه الأم.

 

في صفوف الحزب الشيوعي

 

من بين مختلف المنظمات العمالية الفرنسية الناشطة في تونس، مثّلت الكنفدرالية العامة للعمل الموحد المنظمة الأكثر قربا من الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي التحق “باك” بصفوفه مطلع عام 1925.  وبالتوازي معه، التحق برابطة حقوق الإنسان الفرنسية – فرع بنزرت، وكذلك بجمعية قدماء المحاربين ممن شاركوا في الحرب العظمى. وفي السّنة نفسها، خاض أولى تجاربه التّنظيرية مع ترؤّسه جريدةَ “البروليتاري” (جريدة عمّالية أسبوعية) سعت إلى مخاطبة العمّال وتوعيتهم سياسيا، من خلال لغة ومفاهيم وخطاب يساري مبسط، ولو أن هذه التجربة لم تتواصل كثيرا. إذ سرعان ما وقع حلّ الصحيفة عام 1926، إثر محاكمة “باك” الثالثة. أما محاكمته الأولى فقد ارتبطت بنازلة “الريف”. أي الحرب الفرنسية على منطقة الريف -شمال المغرب الأقصى- في محاولة لمساندة الإسبان في قمع ثورة التحرير الريفية بقيادة الخطّابي. وهو ما ندد به أنصار الحزب الشيوعي الفرنسي، وفي تونس أشرف “باك” على توزيع وتعليق مناشير مناهضة للحرب، ليكلفه ذلك السجن لمدة سنة، يوم 16 نوفمبر 1925 بتهمة “تحريض العسكريين على العصيان”، ومرة أخرى يرتبط مصيره بالجيش والعصيان.

أمضى الشاب عقوبته في سجن الرابطة بالعاصمة التونسية، وقد أتاحت له بطالة السجن الإجبارية، الفرصة لقراءة جلّ النصوص الفكرية الماركسية الكلاسيكية لماركس وإنجلز والمنظرين اليساريين الفرنسي، ليتجذّر بذلك في شيوعيته مرة واحدة للأبد. وفي السجن توطّدت صداقته ببعض التونسيين. وبرفقتهم جرّب ما عزف عنه غيره من قيادات الحزب الفرنسيين، أي محاولة التوجه إلى جماهير التونسيين بدلاً عن عمّال الإيالة الأوربيين دون سواهم. إيمانا منه بقدرة “المحليين” على الفعل وتحقيق الثورة.

وفي خطوة عملية، ذهب نحو ما هو أبعد، إذ سعى بما امتلكه من لغة عربية بسيطة، إلى استقطاب عدد من مساجين الحزب الحر الدستوري التونسي -الممثل الرئيس للحركة الوطنية التونسية وقتها- كعلي جراد والهادي الغربي، اللّذيْن كانا من أكثر شباب الحزب حماسا وراديكالية ومناصرة لقضايا التحرر-وفعلا التحق الاثنان بالحركة، ليكونا في طليعة التونسيين المنتمين إليها والمؤسسين فيما بعدُ للشيوعية “التونسية”.  ومعا نجحوا في توسيع الحركة داخل السجن، حتى تمكن “باك” في سبتمبر 1926 من قيادة إضراب جوع فريد من نوعه، عنوانه الحق في التمتع بصفة “السجين السياسي” له ولرفاقه من شتى الخلفيات.

 

هدنة ما بين الحربين

 

في السنة الموالية غادر السجن دون أن يعود إلى العمل في الميناء، بل اختار التجارة المتجولة ومعها تنقل بين المدن والمناطق، متاجرا ومحاولا إعادة بناء هياكل الحزب وتنظيماته، وتكوين عناصر جديدة للانخراط فيه، خاصة من خلال إلقاء الدروس وتأطير الشبّان. وعن تلك الدروس روى الحبيب فرحات وهو أحد أوائل التونسيين الذين شاركوا فيها، أنها كانت مزيجا من مهاجمة المثقفين والدعوة الأخلاقية إلى التحلي بالقيم العمّالية الخالصة كالمقاومة والتضحية ومقاومة الاستغلال، في جوّ من التبسيط والسطحية. سطحية مردّها ضعفُ تكوينه العلمي ورغبتُه الملحة في الفعل وازدراؤُه التنظيرَ.

ومن بين مختلف الشبّان شدّته مجموعة أكثر من غيرها، هي شباب الحركة الدستورية التونسية. من أيام السجن التي تعرف فيها إلى جراد ومن معه، فسعى إلى توسيع نضال حركته من خلال دمج ثوريي الحركة ضمن تنظيمه في البداية. ليعوّضها فيما بعدُ باستراتيجية أكثر جرأة، ألا وهي “غزو” الحزب وهياكله بدلاً عن استمالة أعضائه. ومع تأسيس الدستوريين لجمعية الشباب الأهلي، كجمعية شبابية لتأطير وتعبئة شباب الحزب، في شهر جانفي عامَ 1927، حاول “باك” ومن معه اختراقها. فقد عقدت الشبيبة الشيوعية، في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر 1928، اجتماعا ترأّسه “باك” ودافع خلاله عن مقترحه. ليتقرر في النهاية إرسال عدد من الشيوعيين التونسيين الشبان للالتحاق بصفوف الجمعية ومن ورائها الحزب، أملا في تغييره من الداخل.

أثارت الخطوة حفيظة الطّرفين، قيادات الحزب الشيوعي الفرنسيين من جهة وقيادات الحزب الدستوري، من نخب أرستقراطية محافظة. ليقرّر القيادي في الحزب والمسؤول الأول عن الجمعية محيي الدين القليبي، طرد كل الشبان القادمين من الحركة الشيوعية، حتى لا يختلط الطلبة بـِ“الجهّال” وَفقا لتعبيره وقتها، ولتنتهي بذلك محاولات “باك” في التقرب من الدستوريين مرة واحدة وإلى الأبد. غير أن بصيص أمل آخر لاح بالتوازي، هو محاولة بعث جامعة عموم العملة التونسية للمرة الثانية. تحمس “باك”، العامل القديم، للمشروع، خاصة أنه كان مقرّبا من بعض رفاق الحامّي التونسيين، وبحماسه ذلك توجه نحو مدينة بنزرت في العاشر من أكتوبر 1927 للمشاركة في المؤتمر الافتتاحي، أين استقبلته الخيبة من جديد. إذ تمّ طرده من الاجتماع لانعدام “الصّفة”. ومرة أخرى جلب لنفسه سخط رفاقه الفرنسيين في الحزب وفي التنظيمات العمالية الموالية.

لم يثق التونسيون به، ولم يقتنع الفرنسيون بمنهجه غير المنصاع للأُطر النظرية للحزب، جداران اصطدم بهما العامل صاحب الثلاثين عاما، وبدلَ أن يرضخ اختار ضرب الجدارين معا، ليخوض بذلك آخر تجاربه التونسية. يعنون الحبيب رمضان نشاط “باك” خلال هذه الفترة بـ “توْنسة الحركة الشيوعية”، “توْنسة” بلغت أوجَها مع إعلانه الصريح عن بعث الحزب الشيوعي التونسي، لتعويض الفرع الجامعي للأممية الشيوعية التابع مباشرة للمركزية في “الميتروبول” الفرنسي. وبذلك الإعلان لم يعد من الممكن للشيوعيين الفرنسيين السكوت عن خطر شقّ الحركة، لتقع دعوة “باك” إلى فرنسا في أفريل من عام 1929، ليغادر تونس إلى الأبد.

 

عشية الحرب

 

ما إن وصل إلى فرنسا، حتى تمّ استجوابه من قِبَلِ اللّجنة المكلّفة بالمستعمرات في الحزب الشّيوعي حول ما بلغهم من أنباء، على هامش المؤتمر السّادس. في البداية حاول إقناع اللّجنة بمبتغاه، أي تعميم الحركة وتجذيرها بين الفئات المحلية الأكثر هشاشة، أي عموم التونسيين. وهو ما لم يقنع أعضاء اللجنة، التي رأت في ذلك تهديدا لوحدة الأممية العالمية. وكأن وحدة الصفّ لا تفترض إلاّ صوتا واحدا هو الصوت الفرنسي وصيًّا على الفرنسيين ومستعمراتهم. وعلى كل حال، رُفضت مقترحاته. وعندما أراد العودة إلى تونس مُنع من ذلك. فاضطُرّ إلى البقاء في فرنسا مُكرَها. في البداية لم يقع رفته من الحزب، ولكنه بقي محلّ توجّس من قِبَلِ أقرانه الفرنسيين. ففي مخطوطات كتبها بنفسه عام 1933، تحدث عن التحذيرات التي تلقاها من هياكل الحزب بالإبعاد والرّفت. وداخل الهياكل البيروقراطية للحزب، توالت التقارير عن “الرفيق السابق المجند في تونس” والعنصر “ذي المهمات الغامضة”. وأمام صدود الحزب عنه، اختار “باك”، الاستقالة ورفت نفسَه بنفسه عام 1935، لتحوم الشكوك حول تأسيسه تنظيما سريّا خاصّا خارج أطر الأممية. وما كان شكّا، أمسى معطى ثابتا في العام الموالي مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. إذ انخرط في دعم الكتائب الأممية والجمهورية، من باريس إلى مرسيليا، عمل على توفير الموارد المالية واللوجستية وإيواء المقاتلين، إلى حدود أواسط سنة 1937. ومع ذلك، فإنه لم يعلن انشقاقه الصريح وخروجه عن “الأممية”. ومع تصاعد نشاطه، اتخذت سكرتارية الحزب القرار بوضعه في قائمة العناصر السوداء بتاريخ العاشر من أوت عام 1938. ليرد في المذكرة عدد 924، تأكيدا لقرار سابق صادر عن لجنة مرسيليا مفاده أن الرجل “عنصر مشبوه يتوجب اجتثاثه من كل هيكل أو تنظيم يلتحق به!”.

انتهت الحرب الإسبانية بهزيمة وخيبة كبرى، وفي فرنسا أمضى السنتين اللاحقتين، عاملا في إحدى حظائر المحافظات ومنبوذا من رفاقه القدامى. لولا أن أحداثا جِساما عادت لترمي به من جديد إلى قلب الرحى، رحى أقسى وأعنف من كلّ ما سبق. ففي الثاني والعشرين من جوان عام 1940، أعلن الجنرال “بيتان” هزيمة فرنسا واستسلامها لقوات المحور. ليقع تقسيم البلد إلى شطرين: نصف محتلّ احتلالا مباشرا، ونصف آخر بالتبعية. وعلى خلاف الهياكل الرسمية للأممية الشيوعية، التي وجدت نفسها في حرج بين مقاومة المحتلّ الفاشي أو الصمت تبعية للاتفاق السوفياتي – الألماني المريب عامَ 1939، اختار “باك” كالعادة الخيار الأكثر ثورية وتمرّدا، وطبعه الجريء هذا، دفع المخابرات السوفياتية التي حركتها خشية المكر النازي المتوقع، إلى التّواصل معه من أجل رصّ الصّفوف.

غادر “باك” عمله متجها نحو العاصمة المحتلة باريس متعلّلا بمرض ألمّ به، أين شكّل خلفية مقاومة سرية، جمع عناصرها ممن بقي من رفاق الحرب الإسبانية من شتى الجنسيات. ولسنتين انتقلت المجموعة من مجرّد خلية تنسيق وجمع للمعلومات، إلى شبكة مقاومة عنيفة، نفذت عمليات عدة، إلى أن تمكن بوليس “فيشي” الموالي للاحتلال من تتبّعها وتفكيكها في جوان عامَ 1942. ومن بين جلّ عناصرها كان “باك” “رئيس عصابة المخربين والمسؤول عن تكبيد الفيرماخت خسائر بالملايين”، المطلوب الأول. لتقع ملاحقته وإيقافه بتاريخ السابع من جويلية الموالي.

وليلة اعتقاله الأولى، وحتى لا يضطر إلى الإفصاح عمّا في جعبته، كسر زجاج نافذته. وبشظايا البلور قطع شريان رقبته، محاولا الانتحار، لولا تفطن عناصر “الغستابو” فوقع إسعافه وبصعوبة عاد إلى الحياة، ليُعذَّب دون جدوى أياما تلو أخرى. خلال أيام التعذيب الأولى لم يفقد جلاّدوه الأمل، ولكنّ أنباءً انتحار زميله في الشبكة المعروف باسم “بيل” والخشية من نجاح المقاومين في تهريبه أثناء نقله للمحاكمة -على شاكلة ما خلّده ميلفيل في جنود الظلال إثر الحرب- دفعت الألمان إلى اتخاذ القرار بتصفيته بعد شهر من التّعذيب.

وبتاريخ السادس من فيفري عام 1943، وفي باحة مبنى وزارة الدفاع، نُفِّذ الحكم في “روبرت راوول باك” رميا بالرصاص. ليرحل دون أن يبصر ثمار ما بذل في سبيله عرقه ودمه: تحرير باريس، سقوط الفاشية في إسبانيا، توحّد العمال التونسيين، وبعث حزب شيوعيّ تونسي مستقلّ. ميراث ربما لم تستهوِه رؤيته متحقّقا في ذاته، بقدر ما أحبّ المُضيّ نحوه. ذلك أنّ الحرية سعي لا مسعى.

 

 

المصادر:

  • https://maitron.fr/spip.php?article16077, notice BECK Robert, Louis [Pseudonyme : Raoul] par Claude Pennetier, version mise en ligne le 20 octobre 2008, dernière modification le 21 août 2022

 

  • الحبيب رمضان، تراجم نشطاء الحركة الشيوعية في تونس: زمن الاستعمار الفرنسي وبدايات عهد الاستقلال، دار محمد علي الحامي، بالشراكة مع روزا لوكسمبورغ، 2021.
  • حبيب قزدغلي، تطور الحركة الشيوعية بتونس: 1919-1943، منشورات كلية الآداب بمنوبة، 1992.