في الحاجة إلى معرض غضب الكِتاب

مايو 2025

في معظم بلدان العالم تُمنح إعفاءات ضريبية لسوق الكتب الورقية باعتبارها وسيلة لدعم الثقافة وتيسير الوصول إليها. لذلك، تتراوح نسبة ضريبة القيمة المضافة على الكتب عادةً بين 4% و10% كما هو الحال في تونس التي تقر نسبة 7% ونفس الأمر ينطبق على ألمانيا (7%)، في حين تبلغ 5.5% في فرنسا و6% في السويد و8% في اليابان. لكنّ الوضع مختلف في تشيلي، حيث تصل هذه النسبة إلى 19%، ما انعكس مباشرة على أسعار الكتب، وساهم في تعميق أزمة القراءة. حيث أظهر آخر استبيان أُجري سنة 2022 أن نحو 52% من سكّان تشيلي لا يقرأون.

في مواجهة هذا الواقع، بادر عدد من الناشرين الصغار إلى تنظيم معرض مستقل للكتاب في العاصمة سانتياغو، أطلقوا عليه اسم “غضب الكتاب” (La Furia del Libro) وتحولت هذه  المبادرة سريعًا إلى مهرجان أدبي سنوي بارز يهدف إلى تمكين الجمهور من اقتناء الكتب بأسعار مخفّضة مع توفير برنامج ثقافي متنوع يشمل ندوات أدبية وأمسيات موسيقية تُضفي طابعًا حيويًا على الفعالية التي تتواصل على مدى أربعة أيام.

وعن نشأة الفكرة، يروي أحد المؤسسين، جالو غيجليوتو (Galo Gigliotto)، أن الأمر بدأ كمزحة مع صديقه جوستافو باريرا، حين أخبره بقرب موعد معرض الكتاب، فردّ عليه: «ينبغي أن نُنظّم معرض غضب الكتاب، لا معرض الكتاب!» وهكذا تحوّلت السخرية إلى مبادرة فعلية، عُقدت نسختها الأولى في يونيو 2009 بمشاركة 15 ناشرًا، وحوالي  300 زائر. وفي العام التالي، تم إثراء الفعالية ببرامج أدبية ساعدت على استقطاب حوالي 9000 زائر، ما استوجب نقل المهرجان  من مكتبة “Viva la lectura” إلى فضاء أرحب وأقدر على استيعاب الحضور، وهو مركز غابرييلا ميسترال الثقافي القريب من محطة مترو كالي كانتو، حيث استقرّ منذ ذلك الحين وأصبح تقليدًا ثقافيًا تتجدّد روحه كل عام.

وُلد مهرجان “غضب الكتاب” بوصفه فعل مقاومة، واستجابة لحاجة ملحة لأن يكون الأدب والثقافة جزءًا من النضال الاجتماعي. وقد عبّر عن هذه الروح في دورته الثامنة سنة 2017 من خلال شعاره: “Ya no basta con leer” أي القراءة لم تعد كافية، المستلهم من  عنوان واحدة من  كلاسيكيات السينما السياسية الملتزمة  “Ya no basta con rezar” (الدعاء لم يعد كافيًا) للمخرج ألدو فرانسيا، التي تدور أحداثه حول كاهن كاثوليكي يدعى الأب جيراردو يعمل في منطقة ريفية، يعاين على مدار  الفيلم  واقع الفقر والظلم الاجتماعي فيصل إلى قناعة مفادها  بأن الدعاء وحده لا يكفي،  ويقرر النزول إلى الشارع والانخراط في النضال من أجل التغيير.

بهذا المعنى، أراد المهرجان توجيه رسالة مباشرة للقراء مفادها أن القراءة، حين تظلّ فعلًا فرديًا منكفئًا على الذات لا يكفي لإحداث التغيير. بل ينبغي أن تتحوّل إلى ممارسة جماعية من خلال تنظيم نوادٍ ومجموعات قرائية قادرة على تحويل المعرفة إلى فعل، والأفكار إلى أدوات لتغيير الواقع.تكتسي هذه الرسالة أهمية متزايدة في ظل غياب شبه تامّ للفعل السياسي، وتعميق الفردانية المعاصرة التي قضت على المعنى الحيوي للجماعة كمحرّك للمعنى والعمل المشترك. وتم ترجمة البعد الجماعي في فعاليات هذه الدورة  شملت ندوات نذكر منها:

“لم يعد أحد يتحدث عن الكتب: هل هي أسطورة أم حقيقة؟” أدارها الصحفي روبرتو كاريجا، بمشاركة الناقدة والأكاديمية باتريشيا إسبينوزا والكاتب كريستوبال جايتي.

إضافة إلى  “كيف تتحدث عن الكتب في زمن الإنترنت”، التي  أدارها فريق الموقع الثقافي الإلكتروني Ojo en Tinta (عين في الحبر) وشاركت فيها الكاتبة المكسيكية فرناندا ميلكور، وجي بي زوي، والناشر/الكاتب الأرجنتيني داميان تاباروفسكي.ومن بين الفقرات المميزة ضمن برمجة المهرجان، فقرة “La Lectura Furiosa” (القراءات الغاضبة)، وهي أمسيات مفتوحة يُخصص فيها الركح والميكروفون لكل من يحمل “نصًا غاضبًا” ويرغب في مشاركته مع الجمهور.

ومع توالي الدورات، أثبت المهرجان قدرته على تحفيز النقاش العمومي حول قضايا مجتمعية راهنة مثل الاستعمار وما بعد الاستعمار، أزمة المناخ والهجرة. فقد خُصصت الدورة الثالثة عشرة سنة 2021 لموضوع الهجرة تحت شعار: “Migrante: Extranjera en su propio país” (مهاجر: مغترب في وطنه). وتضمّنت ندوات منها :“العنصرية وكراهية الأجانب: مخاطر كامنة” بمشاركة عالمة الاجتماع ماريا إميليا تيجو والناشطة أندريا كاستيلون، ممثلة “حركة عمل المهاجرين”.

“الهجرة ووسائل الإعلام: أخبار تتجاوز القوالب النمطية”، أدارها الصحفي الفنزويلي مانويل هيرنانديز.

 

لكن لماذا يبدو هذا الحدث القادم من أقصى جنوب القارة وكأنه أقرب إلينا من تظاهراتنا الثقافية المحلية؟

 

في تونس، وعلى الضفة الأخرى من الجنوب، نُظّمت في الفترة ذاتها الدورة الأولى من تظاهرة Le livre en fête (احتفالية الكتاب). مناسبة بدى  عنوانها مفعمًا بالحماس، غير أنّها أعادت إلى ذهني أسئلة لم تكفّ عن الإلحاح في كل مرة: متى نُخرج الكتاب من احتفالاته الزائفة وبطولاته الوهمية -في إشارة إلى ما يُعرف بـ”بطولة المطالعة”- ونوجّه البوصلة نحو الإشكالات الحقيقية؟ فما جدوى الاحتفال بالكتاب في بلد يُظهر فيه تقرير للمعهد الوطني للإحصاء (2023) أنّ 36% من الأطفال لا يمتلكون الحد الأدنى من مهارات القراءة.

إضافةً إلى ذلك، يعاني معرض تونس الدولي للكتاب في السنوات الأخيرة من تراجع ملحوظ وسلسلة من الدورات الفاشلة، يمكن الوقوف عليها بوضوح في الدورتين الأخيرتين.

ففي الدورة ما قبل الماضية، تمّ الإعلان في البداية عن إلغائها بسبب “عدم جاهزية فضاء معرض الكرم”، وفق ما جاء في بلاغ صادر عن المؤسسة الوطنيّة لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية. غير أن القرار لم يلبث أن تم التراجع عنه، كما ورد لاحقًا في بيان رسمي على الصفحة الخاصة بوزارة الشؤون الثقافية. ولكن بعد أن غيّر عددٌ مهمّ من الناشرين وجهتهم، مفضّلين المشاركة في معارض دولية أخرى نُظّمت في الفترة نفسها، ما حرم القرّاء التونسيين من فرصة الحصول على عناوين  لا تصل إلى المكتبات عادة، أو تصلها بأسعار مرتفعة.

أما خلال الدورة الأخيرة من معرض تونس الدولي للكتاب فقد كشفت عن سوء دراية بجداول بقية المعارض. بعدما اختيرت فترة تنظيمه من دون مراعاة لتقاطعها مع مواعيد ثلاثة من أبرز المعارض العربية: معرض الرباط، الذي أصبح في السنوات الأخيرة فضاءً متناميًا للحوار الثقافي المغاربي ومعرض مسقط الذي حافظ على طابعه المحافظ والمهني في آن ثم معرض أبو ظبي، الذي يستقطب أبرز دور النشر العربية والعالمية، ويتيح شبكة علاقات واسعة بين الكتّاب والناشرين والمترجمين.

في المقابل، عانى معرض تونس من غياب دور النشر الكبرى، وترك المجال مفتوحًا أمام المكتبات التجارية التي عرضت كتبها بأسعارها المعتادة  من دون أي تخفيضات تُذكر. وهي ظاهرة باتت تتكرّر في السنوات الأخيرة، مع تقلّص حضور دور النشر مقابل هيمنة المكتبات،  ما أفرغ المعرض من أحد أبرز أدواره الاجتماعية: تمكين القارئ من الوصول إلى الكتاب بسعر معقول. مما يدفعنا للسؤال التالي؛هل تعمل إدارة المعرض على إستقطاب الناشرين أو دفعهم إلى التفكير في عدم العودة!

إذ لا يكفي غلاء أسعار الأجنحة والمحسوبية في إختيار مواقعها، بعد ما وجد أغلب الناشرين الأجانب أنفسهم في أماكن لا يكاد يصل إليها القارئ. لتواصل ادارة المعرض المضي قدما في التعقيدات التي تقرّها اذ نشرت بلاغا  بتاريخ 2 ماي  ورد فيه التالي :

” ليكن في علم كافة السيدات والسادة الناشرين غير التونسيين بعدم امكانية أنه لا يمكنهم إخراج طرود الكتب والمنشورات غير المباعة من المعرض.ويتعين عليهم تحويل هذه الطرود إلى مستودع الجمارك بالقاعة عدد 3 بقصر المعارض بالكرم ليتم إرجاعها إلى البلد الأصلي لأصحابها.ويجب التذكير بأنه يمنع تخزينها لدى أي جهة أو بيعها في معارض أخرى في كامل التراب التونسي. شكرا على تفهمكم وتعاونكم”. وهو قرار عارضه العديد من القراء، متسائلين  عن جدوى حرمان السوق والقارئ التونسي من فائض كتب المعرض، ولماذا يتم إثقال كاهل الناشرين المشاركين بتكاليف إعادة الشحن الباهظة! هل سيفكر هؤلاء بالعودة مرة أخرى! قطعا لا.

ولم يكن الجانب التنظيمي والثقافي بأحسن حال، حيث شهدت الدورة الأخيرة برمجة ثقافية متواضعة لم يُعلن عنها إلا بعد انطلاق المعرض بيوم كامل، دون أي توضيح بشأن القاعات أو تفاصيل الفعاليات، ما أضاف مزيدًا من الضبابية على الحدث الأهم عند القراء.

وبالتالي يمكن القول أن  تظاهراتنا الثقافية اليوم كأنها باتت  بلا روح، بلا رهانات، بلا أسئلة تليق بهذا الزمن المأزوم. وكأن الكتاب فقد القدرة على إزعاج السلطة أو زعزعة اليقين أو حتى إثارة النقاش.

ربما ليس “غضب الكتاب” مجرد اسم لمهرجان في بلد بعيد، بل علامة على ما يمكن أن يحدث حين تلتقي الثقافة بالوعي، ويستعيد الكتاب قدرته التحريضية -على حد تعبير ماريو فارغاس يوسا-  ولعل الغضب، هذه المرة، هو ما قد  يفتح الباب على أفق جديد للقراءة والمقاومة. إذ  ليس الغضب امتيازًا جغرافيًا. بل  هو إمكان شرطه الأول أن نصدّق أن الثقافة ليست ترفًا، وأن الكتاب ليس زينة موسمية.