محجوبة الجزائرية: ثورة واحدة لا تكفي

مارس 2024

عام 1920 في مدينة جيجل شرق الجزائر، رُزق الطاهر وزوجته فاطمة بمولودهما الأول، كانت أنثى. وككلّ المغاربة المؤمنين عميقا بالمكتوب ودلائله وإشاراته، منحها الأبوان اسم “مسعودة” عسى أن يرافقها السّعد في حياتها وحياة من حولها.  وكغيره من أفراد الطبقة الوسطى المدينيّة المحليّة، سعى الطاهر لإلحاق ابنته بالمدرسة العمومية، أين تعلمت مثل غيرها القراءة والكتابة. وبرز للعيان “نبوغها و ذكاؤها” كما تروي المصادر بشيء من العمومية فيما بعد.

لا نعرف الكثير عن العشرية الأولى من طفولتها غير ما سبق، إلى أن حلّ عقد الثلاثينات ومعه تغيّرات كثيرة على الصعيد المحلي، لعلّ أبرزها مرور قرن كامل على احتلال الجزائر. وهو حدث سعى المستعمرون لإحيائه والاحتفاء به، مستفزّين بذلك مشاعر السكان المحلّيين، ومحفّزين لهم في الآن نفسه على تجذير وإحياء الحركة الوطنية، خاصة لدى النخب المحلية والعائلات الميسورة والمتعلمة في الأوساط الحضرية، التي أشار جان جانسن لكونها الأكثر تأثرا بهذا الحدث وتبعاته في الفترة الممتدة من 1930-1937. ومن بين هذه العائلات، عائلة الطاهر موساوي التي ارتبطت بالنشاط الوطني محليا، وكلفها ذلك الخضوع لكثير من التّضييقات والتتبّعات الأمنية، أجبرت الأسرة في النهاية على مغادرة جيجل شرقا نحو تونس سنة 1935، في رحلة لم تُعرفْ أدائمة هي أم وقتية؟

في ضواحي تونس

 

استقرّت أسرة موساوي في بلدة رادس، من ضواحي العاصمة تونس. وعلى خلاف الجيل السابق من الأسر الجزائرية المستقرة في تونس، والتي اختار جلّها الانخراط في صفوف الحركة الدستورية التونسي بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1944) مثل أحمد توفيق المدني (1899-1983) وغيرهم. وصلت أسرة موساوي لتونس لتجد الحركة الوطنية في أوج انقسامها، بعد أقل من سنة من انعقاد مؤتمر قصر هلال  (2 مارس 1934) الذي أسفر عن بروز الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد بقيادة جملة من الشبانّ في مقابل الحزب القديم – والّذي ضم النخب التقليدية من الوطنيين التونسيين والجزائريين-.

سرعان ما تعرفت المراهقة ذات الخمسة عشر ربيعا على أخبار هؤلاء الشبان، وحيوية نضالهم وشعاراتهم. غير أنها وخلال سنوات إقامتها الأولى في تونس لم تشارك في الحراك الوطني بشكل مباشر، لعوامل عدة منها صغر السن وخاصة الوضع السياسي في البلاد خلال أواخر الثلاثينات. فحيويّة الدساترة الجدد سرعان ما جلبت النقمة والقمع الدموي مع أحداث 9 أفريل 1938، والتي تلاها المنع المطلق للنشاط الوطني. وهنا وجدت مسعودة نفسها مرة أخرى في نفس الظروف التي فرّت منها قبل سنوات من جيجل. أمّا الفوارق الظاهريّة بين الوضع السياسي والحقوقي في كلّ من البلدين: المحتلّيْن احتلالا مباشرا والخاضعيْن للحماية ،  فلم تعدُ أن كانت وهما سرعان ما تبدد. ومرة واحدة وللأبد تكشّفت لها حقيقة ستلازمها لآخر سنواتها، مفادها أن المعركة واحدة والعدو واحد: الاستعمار.

في مطلع الأربعينات، تجذرت علاقة مسعودة بالحزب الدستوري الجديد وخياراته، من خلال احتكاكها بالمنتمين للحركة في الوسط الطلابي. تحديدا بعد سنة 1941، والأحداث العظام التي تلتها من احتلال فرنسا وغزو الألمان لتونس وصولا لمعركة تونس ونجاح الحلفاء في طرد قوات المحور منها عام 1943، وهي معركة عايشتها عن قرب. فمن نافذة منزل رادس شاهدت أعنف وآخر فصولها في حمام الأنف وضواحي العاصمة.

انجلى غبار معركة تونس بين القوى العظمى، و أزفَ موعد معركة التحرر. ومع عودة قيادات الحزب الدستوري الجديد من السجون والمنافي بعد الحرب، عادت للحركة الوطنية حيويتها وبتشجيع من والدها الطاهر التحقت مسعودة رسميا بصفوف الحزب، ومعها اختها الصغرى ليلى. لتنخرط كلتاهما في العمل السياسي السلمي، تحديدا ضمن هياكل الحزب الطلابية والدعائية والتعبوية.

 

حيّ على النضال

 

آمنت الشابة بالتمشي التفاوضي المباشر والسلمي الذي اختارته الحركة الوطنية أواخر الأربعينات، وانخرطت فيه بحماس وفي حدود ما يوفّره الحيّز الحزبي وهياكله، تحديدا منذ أوت 1950. غير أن صفاء أجواء عهد “مسيو بريليه” لم تطل، بل سرعان ما عكّرها دخان المدمرة الحربية ” لو مركيور” وقد لاح طيفها في ميناء حلق الوادي، صباح الثالث عشر من جانفي 1952، وعلى متنها مسيو دي هوتكلوك المقيم العام الفرنسي الجديد.

ترجّل المقيم من بارجته وفي أيام معدودة، علّق المفاوضات المباشرة وحلّ الحكومة الوطنية وحاصر قصر الباي وسجن ونفى الوزراء والقيادات الوطنية وعلى رأسها بورقيبة. قلّة فقط تمكّنت من الفرار نحو الخارج مثل صالح بن يوسف. أما داخل البلاد فلم يتصدّ لقيادة شتات الحركة الوطنية، إلا مؤسس وزعيم الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد.

وصمود حشاد هذا كلفّه في النهاية حياته، ففي صباح الخامس من ديسمبر من نفس العام، اغتيل الزعيم داخل سيارته رميا بالرصاص، وهو بصدد التوجه من منزله نحو العاصمة تونس، تحديدا في “شوشة رادس”. رادس نفسها التي تقطنها مسعودة وأسرتها. وباغتياله تغيّرت حياتها مرة واحدة وللأبد.

باغتيال حشاد، تأكدت للفتاة قناعة مفادها عقم المسار التفاوضي السياسي دون قوّة تعضده، ولأول مرة اختارت وضع الزي المدني والالتحاق بصفوف المقاومة المسلحة الناشئة في الجبال حديثا، والتي برزت نواتها الأولى منذ أواخر جانفي من نفس السنة كردّ على إجراءات “دي هوتكلوك” القمعية. ومن بين كل المجموعات اختارت مسعودة المجموعة الرئيسية في الوسط والجنوب الغربي والتي مثلت العصب الحيوي لما سيعرف فيما بعد بالثورة المسلحة، تحت قيادة الأزهر الشرايطي (1920-1963)  والمُلقّبِ بـ” أسد عرباط”.

لا نعلم على وجه التدقيق ظروف لقاء مسعودة بالأزهر أول مرة، غير أن المرجح هو أن هذا اللقاء تمّ إثر عودته من الشرق بعد حرب 1948 ولقائه ببورقيبة أين اتخذ قرار النضال المسلح، ثم تواصله مع عناصر الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد محليا في العاصمة التونسية، ومن بينها مسعودة، التي قادها حماسها للالتحاق بالأزهر وجيش التحرير الوطني الذي يشرف عليه.

 

تلك الجبال تشهد علينا

 

عند هذه النقطة تركت مسعودة اسمها القديم، ليبرز للعلن اسمها الحركي “المحجوبة الجزائرية” أو “الدزيرية” كما في النطق المحلي، والذي ستُعرف به فيما بعد في الوثائق الإدارية والأمنية الفرنسية. أمّا تجربتها هنا فيمكن تقسيمها لمرحلتين، مرحلة أولى لمْ تلتحق فيها كلّيا بمواقع المقاومين في الجبال الغربية إلّا للتدريب على مختلف أصناف الأسلحة المتوفرة والعمليات الفردية، قبل أن تعود للعاصمة أين اضطلعت بدور استعلاماتي هدفه جمع المعلومات حول تحركات القوات الفرنسية وتأمين نقل السلاح وغيرها من المسائل اللوجستية.

وهي مرحلة لم تطل، إذ سرعان ما التحقت نهائيا بالمقاومين في الجبال، وهو ما تم على الأرجح أواخر سنة 1953، أي الفترة التي تصاعد فيها عمل المقاومة بشكل ملحوظ. والثابت هنا هو مشاركتها في جل المعارك الكبرى التي وقعت في الجنوب والوسط الغربي سنة 1954 تحت قيادة الأزهر الشرايطي مثل معركة تمغزة يوم 9 أكتوبر 1954 ومعارك جبل الردّيف وجبل بوشبكة على الحدود الجزائرية وغيرها… في حين تبقى شهرتها مرتبطة أساسا بمشاركتها في معركة جبل سيدي عيش الثانية في المنطقة الفاصلة بين الجنوب والوسط الغربي.

من بين كل المعارك، تعتبر هذه المعركة واحدة من الأشهر في تاريخ المقاومة المسلحة لعوامل عدة أهمّها: امتدادها لأربعة أيام متواصلة من 20 إلى 23 نوفمبر، وتجمع ما يقارب الخمسمائة مقاوم في أكبر حشد عسكري عرفته الثورة، إضافة لحجم الخسائر الفرنسية التي أجبرت الأخيرة على منح المقاومين الأمان في كل التراب التونسي، خلال اليوم الموالي للمعركة. إضافة إلى الحضور اللافت للمقاومين الجزائريين فيها، إذ بلغ عددهم حوالي الخمسين مقاوما. وخلال هذه الأحداث، كانت المشرفة الأساسية وربما الوحيدة، على جمع وسحب المصابين من أحراش وسفوح الجبال والعناية بهم على امتداد الأيام الأربعة.

ويوم انتهاء المعركة، صدر إعلان الاتفاق بين الحزب الدستوري والسلطات الفرنسية، على منح المقاومين المسلحين “الأمان” مقابل تسليمهم لسلاحهم. وباستثناء بعض الجماعات التي رفضت ذلك، وافقت مجموعة الأزهر الشرايطي على وضع السلاح، وفي ديسمبر من نفس السنة وصلت اللجان المتخصصة لجبل سيدي عيش، أين نزل المقاومون مقابل تسلم بطاقة “دي لاتور” نسبة للمقيم العام الفرنسي. وضمن وثائق الأمان ومن بين حوالي الخمسمائة مقاتل، لم يرد سوى اسم مناضلتين فقط شاركتا في المعركة، إحداهما تونسية ألا وهي حسنية رمضان عميّد المنتمية لعرش الهمامة، أما الثانية فهي محجوبة الدزيرية، والتي لم يبد أنها استكانت فعلا للسلام.

 

شهيدة الثورتين

 

ما إنْ حقّقت الثورة التونسية نتائجها المباشرة، أي إجبار الفرنسيين للعودة على العودة  للتفاوض المباشر حول الاستقلال، حتى انطلقت شرارة ثورة أعنف وأشرف، وهي ثورة التحرير الجزائرية في الفاتح من نوفمبر من نفس السنة. والتي لم تلبث محجوبة أن التحقت بها رفقة ثلة من الجزائريين الذين صحبوها في معركة سيدي عيش. وقد خاضت الشابة مغامرتها في سرية، حتى على الأقربين منها كأسرتها التي لم تعلم مطلقا بالتحاقها بالشرق الجزائري. أما وسط المناضلين التونسيين والجزائريين، أمست محجوبة بنت “الثورتين”.

وفي مارس 1956، انتهت الثورة التونسية رسميا مع توقيع بروتوكول الاستقلال التام، لتعود محجوبة لتونس وتحديدا للعاصمة. وعن عودتها تلك تحدثت الروايات عن الاحتفاء الكبير الذي حظيت به، من قبيل توسيمها رسميا من طرف الوزير الأول والزعيم الحبيب بورقيبة رفقة عدد من المقاومين الجزائريين في قصر القصبة، عرفانا لمشاركتهم في التحرير. فيما تتحدث روايات أخرى عن إقامتها في قرطاج لمدة ثلاث أشهر في ضيافة الزعيم الذي عرض عليها تلبية كل ما تريده، فاختارت منحها إمكانية علاج ورعاية عناصر المقاومة الجزائرية المصابين والقادمين لتونس. وفعلا فقد التحقت بالزاوية البكرية في الحلفاوين، التي حولها المناضل الجزائري محمد الصغير نقاش (1918-2010) لمركز لمعالجة المقاتلين الجزائريين وتجميع المعلومات واللوجستيات، أين تعرفت على الطبيب محمد التومي، الذي خلّد ذكراها فيما بعد، وندين له بكثير من التفاصيل حول حياتها.

ولكنها مرة أخرى لم تقنع بالمشاركة غير المباشرة، فبعد عدة أشهر تركت ميدعتها البيضاء وعادت لامتشاط السلاح، خاصة مع مقتل القيادي مصطفى بن بولعيد في منطقة الأوراس. فاهتمت بداية واشرفت على نقل السلاح من رفاق دربها القدامى التونسيين وتوجيهه للمعسكرات الجزائرية كما سعى لذلك بن بولعيد قبل رحيله. قبل أن تقصد بنفسها بجبال النمامشة شرق الجزائر، لتلتحق بمواقع الثورة في جبال الأوراس، أين أمضت آخر أشهر حياتها.

لا يعلم على وجه التدقيق يوم وفاة محجوبة الدزيرية، غير أن المصادر تتفق حول أنها وقعت خريف عام 1957، أثناء قيادتها لمجموعة من المقاتلين التونسيين والجزائريين بلغ عددهم 11، بهدف نقل عدد من الأسلحة والمؤن من الجنوب التونسي، تحديدا من منطقة كريش النعام – قفصة نحو تبسة، أين تعرضت المجموعة لكمين فرنسي.

لعدة ساعات قاتلت المجموعة قتالا عنيفا، أسفر في النهاية عن استشهاد جميع المقاومين، جزائريين وتونسيين، وعلى رأسهم محجوبة أو مسعودة ذات ال 37 ربيعا، ثائرة رفضت الاستمتاع بثمار انتصار ثورة، لأن ثورة واحدة لا تكفي.

 

المصادر:

  • نورة البورصالي، بورقيبة والمسألة الديمقراطية 1956-1963، دار نقوش عربية، تونس 2016
  • يمينة الشريطي، في شهادة جديدة من الجزائر الشقيقة: الدور الريادي للمقاومة المسلحة التونسية مغاربيا، صحيفة الشروق بتاريخ 18/06/2005
  • فضيلة ب.، مسعودة موساوي بطلة ثورتين، بركة نيوز، بتاريخ 05/01/2024
  • KAMEL NASSER, HOMMAGE À UNE CHAHIDA : JE M’APPELLE MAS‘OUDA MOUSSAOUI, SUR LE CHEMIN DE L’ARABITÉ CIVILISATIONNELLE, LE COLLECTIF ALGERIE-MACHREQ, 20/05/2020
  • CHAMS EDDINE CHITOUR, HISTOIRE DE L’ALGÉRIE DE LA RÉSILIENCE À LA QUÊTE DE LA MODERNITÉ, Editions CHIHAB, 2018.
  • MOUHAMED TOUMI, MEDECIN DANS LES MAQUIS : GUERRE DE LIBERATION NATIONALE 1954-1962 , ENAG Editions, ALGER, 2013.