ياسر جرادي: صوت أبديّ مفعم برائحة البلاد والعباد

سبتمبر 2024

 

في سنة 1978 كتب نزار قباني في مجلة الحوادث عن فيروز كما لو أنه يكتب اليوم عن ياسر جرادي

 

“رأينا فيروز ترش ماء الزهر على وجه الوطن فيصحو من غيبوبته

ورأينا الحجارة تتبعها، والشبابيك تتبعها، وأشجار الغابات والينابيع، وأكواز الصنوبر والخرفان الربيعية تتبعها، وتراب لبنان يتبعها.

كان الوطن يولد كالقصيدة بين شفتيها، وكان لبنان يتشكل كما تتشكل اللؤلؤة في داخل المحارة،

 وبدأ الوطن يتأسس على شفتي فيروز غيمةً غيمةً، وشجرة شجرة، وبيتا بيتا.

كان الوطن محطما فشالته بحنجرتها…

وكان يتيما فأخذته بين ذراعيها…”

 

مع تراكم تجاربه الموسيقية وتعدّد أغنياته المرجعية، برز اسم ياسر جرادي رمزا للأغنية الملتزمة، ومثلما كانت تغني فيروز لبنان في حربها الأهلية، كان ياسر جرادي يغني تونس في ثورتها، كأغنية “ناديتكم” التي كتبها في اعتصام القصبة 2 (فيفري 2011) أو “نسمع فيه يغني” بعد حادثة اغتيال شكري بلعيد…

ما قيمة الفنان إذا تجاهل مَن حوله؟ شكَّل هذا السؤال جوهر مسيرة ياسر جرادي الفنية والنضالية، فكان صوت المهمشين، المؤمن بقضايا العدالة الاجتماعية، التي في سبيلها ومن أجل كلمة كتبها، وأراد إيصالها إلى الناس، ترك خلفه المهرجانات الكبرى والجمهور الواسع، مصوبًا وجهته نحو تونس العميقة، مؤديًا هناك عروضه الموسيقية المجانية، ناشدًا هدفه المرسوم بدقة حسب تعبيره “أن أفتح شبَّاكا صغيرا جديدا، وأن أُلهِمَ طفلا وأجعَله يحلم أو يفكّر؛ ذلك معنى وجودي” وفي حوار آخر “أن ألتقط نظرة طفل توحي لي وكأنه أعاد اكتشاف العالم من خلال أغنيتي، فتلك السعادة العظمى بالنسبة إليّ”.

أدرك ياسر مبكرا المهمة الموكولة إليه، إذ لعبت الموسيقى دورًا كبيرًا في انتشال حياته، من شاب منغلق دينيا يعتقد أن الآخر غير المسلم عدوّه إلى رجل يؤمن بمقولة ابن عربي “لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ، وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ، وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ، أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه، فالحب ديني وإيماني”.

والفضل في هذا التغيير يعود إلى أستاذة الإنجليزية التي عرّفتهم على أغنية Imagine لجون لينون، فجعلت من تلميذ الباكالوريا آنذاك يعيد التفكير في معنى الأشياء، ثم تنسج لاحقا مسيرة فنان تعلم عزف الغيتار والهارمونيكا خارج أسوار معاهد الموسيقى. مستبدلا النوتات بالأحاسيس، فلا يكون بصدد ترديد النغمات، بل بصدد إخراج أجزاء من كيانه، حيث الأحاسيس تكون في القلب من الصوت الذي يخرج منه.

يتذكر ياسر اللحظة التي أملت عليه كتابة وتلحين أولى أغانيه، بعد أن كان يحسب القيثارة آلة تسلية، ثم تفطن إلى كونها أداة مقاومة وشرط التزام (التزام الفنان تجاه ذاته قبل كل شيء كما كان يوضح دائما معنى الالتزام عنده)

بدأت الحكاية يوم 1 أكتوبر سنة 2000 وهي الليلة التي سبقت اغتيال الطفل الفلسطيني محمّد الدّرّة في حضن أبيه. تلك الحادثة التي عصفت بقلبه، وجعلته يكتب الكلمات التالية “وليْد عندو حجرات وعسكر بالدبابات/ حكاية لتو ما وفات/ في القدس وديان مِ الدَّم جرات/ الحكاية صارلها سنين في القدس وغزة وجنين/ العيون تتفرج فيه/ قتلو ولدو ما بين ايديه… (أغنية سكات)

 

ثم في سنة 2003 دُعي ياسر لإقامة فنية تمتد إلى بضعة أشهر بسويسرا، وما إن مرّ شهر واحد حتى شعر بالحنين الجارف إلى تونس، يقول “توحشتها الكل، حتى التفاصيل اللّي ما كانتش تعجبني توحشتها” وبينما هو يتجول ذات مرة على تلك الحالة، عثر على أغنية ثورية باللغة الكاتالونية (L’Estaca) أعجبته موسيقاها، فأخذ يكتب على لحنها:

“نحلف بعرق البنّاية/ اللي يهبط على الحجر يذوب/ اللّي رجليهم حفايا/ واللي تعبوا مِ المكتوب/نحلف بيمين البحارة/ بالشمس والريح والسحاب/ نحلف بالموجة الغدارة/ لا لا على حبك ما نتوب /لا لا ما نمل من صعبك علي/ نكتب اسمك بالدم في يديا/ نرجعلك ديما ديما ديما/ مهما زرعولي الشوك في الثنية/ مهما الأيام حبت تهرب بيا/ نرجعلك ديما ديما ديما/ ونسقي زرعك بدموع عينيا/ مهما خنتيني انتِ عزيزة عليا (من أغنية ديما ديما)

 

تصور أغنيته هذه مشاعر الحزن والحنين بعيدا عن الوطن، مؤديا إياها بصوت مؤثّر، يجد فيه السامع الدفء وحرارة العاطفة، كما لو أنها نسخة تونسية من أغنية Petit Pays لسيزاريا إيفورا التي ترسم فيها حبها لبلادها الصغيرة، المليئة بالحب، رغم بساطتها وفقرها، كما تتحدث أيضا عن الهجرة والحنين إلى الوطن والاشتياق اللانهائي إليه.

 

على امتداد تجربته الغنائية، انحاز ياسر جرادي انحيازا مطلقا إلى سيولة مشهدية تقوم فيها الصورة الشعرية مقام الإيقاع، عن طريق نحتٍ رهيف لجمل غاية في السلاسة، بعيداً عن تقنيات الغناء المعقّدة، تأسر المستمع ببساطتها الخادعة ودلالاتها المنفلتة من أيّ معنى جاهز. حيث يجيد الفنان التأثير العميق في السامع، والاتصال العاطفي مع الجمهور، فيشعر المتلقي دائما، بأنه يستمع لحكاية أو قصة قصيرة، أو حضر عرضاً لمسرحية من فصل واحد، أو التقى بصديق في حاجة إلى أن يتكلم، وأن يبوح له بمواجعه، مثل أغنية “شبيك نسيتيني” أو “ما تخافيش”… وجميعها أغانٍ تمتلك القدرة على إحصاء جراحنا وإعادة ترتيب علاقتنا المتناقضة مع البلاد التي نحبها فتقسو علينا. وهو ما يظهر في الأغنية الأولى التي شَرَعَ في كتابتها ليلة ذبح الراعي الصغير مبروك السلطاني، وأرسلوا رأسه مقطوعا في كيس بلاستيكيّ إلى عائلته، يتحدث ياسر “ليلتها لم أستطع النوم وبقيت أفكر في جميع التونسيين الذين يعانون في المناطق الريفية المنسية، وتنساهم البلاد كما لو أنهم مواطنون من درجة ثانية، ثم بعدها بأيام، استمعت لابن عم مبروك يقول في إحدى القنوات: علاقتنا بتونس متوقفة عند عمود الكهرباء، ليلتها انهيت أغنيتي التي كتبت فيها:

 

“شبيك نسيتيني؟/ انا اللّي اسمك كاتبه على جبيني/ وريحة هواك مخبية في كنيني/ مهما جفيتي عمري ما ننساك/  شبيك نسيتيني؟/ أنا الفرشيشي والعياري/ والهمامي/ جندوبي راسي لفوق يا خضرا/ عاشق جبال الكاف والقمرة/ ماني نسّاي/ ماني بكّاي/ ما عندي أم من صغري عايش وحدي/ ماني شكّاي/ وما نعرف باي/ تعلمت نصبر كي النخل والهندي/ شبيك نسيتيني؟/ أنا اللّي اسمك كاتبه على جبيني/ وريحة هواك مخبية في كنيني/ مهما جفيتي عمري ما ننساك/ شبيك نسيتيني؟/ أنا القفصي اللّي في الداموس طيشتيني/ وانا القابسي اللي ذبلة عراجيني/ نشفت عيوني اما قلبي ديما فيك/ اه يا نسّاية/ انا اللّي عندي معاك الف حكاية/ وحلفت نكتب فيك الف غناية/ ونسكنك بين الوجع والروح/ اه يا منّاية/ من قبل الاستعمار منيتيني/ ومن بعد الاستقلال خليتيني/ ومن بعد الأربعطاش صوتي بْحاح/ اه يا نكّارة/ ما عاد نرجى زيت من زيتونك/ ما عاد انحب الريحة من يسمينك/ وما عاد بيني وبينك كان سماح/ اه يا غدارة/ ما عاد نمن وعد من عيونك/ قلبي اللّي حبك وما غدر ما خانك/ انقلْعه من صدري لين يشيح (من أغنية شبيك نسيتيني)

 

 

لم يكن ياسر الجرادي في هذه الأغنية، يغنّي، بل كان أقرب إلى النحيب. ملامحه وهو يغمض عينيه تشي بأنّه يستذكر الصّور الّتي تستحضرها كلماته. يحاول كبح صوته ببحّة واضحة، ثمّ ينتظر اللحظة المناسبة الّتي تسمح له بمدّ الحركات الصوتيّة، فيخْرِجها في وقتها ليبدو كأنّه يستنجد لرفع هذا الظلم.

 

لم يمْضِ وقت طويل على نجاح أغنيته، حتى شعر ياسر بقسوته “كيف أقول عن تونس يا نكارة! يا غدارة! حينها أدركت أنني أخطأت في عدم التّفريق بين تونس الأرض الوطن عن تونس الدولة التي يمثلها الحكام والسياسيون.” يواصل حديثه “في نفس الفترة راج إعلان لجمعية خيرية قطرية يعلن عن حملة تبرعات لتونس، شعاره “تونس تحت الصفر” أوجعتني هذه الصورة، فكتبت في ليلتها أغنيتي الثانية”. التي يعتذر ياسر في آخرها ياسر لتونس.

“ريت التصويرة في الحيط/ تمنيت ياخذني القبر/ ريت التصويرة وبكيت/ قالو عليك تحت الصفر/ نسمع فيهم باعو ترابك/ باعو الشرف/ باعو القدر/ باعو التاريخ اللّي في كتابك/ باعو اسمك والشعب الحر/ فما اللّي هرب وسكر بابك/ ما حملش الذل/ ما حمل المر/ فما اللّي حرق القلب اللّي يحبك/ هزّو البابور/ هزّو البحر/  يا أمي يا همي يا حبيبة/ يا رعشة في القلب وفي الجاش/ يا شمعة يا نار لهيبة/ يا محبة بوجيعة ما تبراش/ يامي ما تخافيش مهما طالت المحان/ مهما الليل سكن ديارك/ لازم نور النهار يبان/ سامحني يا أمي قلت عليك غدارة/ سامحيني كنت نسخايلك هوما/ كنت نسخايلك بايات وبلدية ووزراء وحكومة/ كنت نسخايلك يا أمي رئيس وقاضي وبوليس والعمدة متع الحومة/ أما انتِ حاجة أخرى/ انتِ حاجة غريبة مش مفهومة/ انتِ فكرة وريحة وفرحة بلاش سبب/ انتِ تبسيمة والأرض والحق للناس المحرومة/ ضحكو عليا قالولي كيفاش تحبها وهي حزينة ومذمومة/ كيفاش مازلت تحبها وهي طيشتنا على طول يدها/ وكيف ما طيشتنا طيشناها ونسيناها وسميناها المرحومة/ قلتلهم مظلومة مظلومة مظلومة/ نحبك يا تونس ونموت عليك/ ما نموت إلا فيك/ وحتى كي نموت يا أمي نموت واقف كي الشجرة/ بش يبقى خيالي يونس فيك (من أغنية ما تخافيش)

 

ثمة في اللغة العربية فعل “حدب”، أي حنَّ ورفق، قد تصح الإشارة إلى أن كلمات وصوت ياسر جرادي كان حدِباً، بمعنى الرؤوف، حيث برع في الانتقال من الأنين إلى الدندنة، من التوجع إلى التخلص من ريبته، كأنه كان يزرع الضيق جيئةً وذهاباً، فيفرجه، أو يتنزه عنه على الأقل. بالتالي، يستحيل هذا الضيق خجلاً منه، ولا يستطيع الاستيلاء عليه. يذبل، أو يهم بالانسحاب، غير أن المغني سرعان ما يعطف عليه، ويحاول مدّ يده إليه، لعلّه، يتغير من محنة إلى مسرّةٍ. وعلى هذا النحو، يكون الغناء، هنا، بمثابة حمل الضيق على الانفراج، بفك انكماشه، وبإرخاء قيده، تحيل كلماته إلى ليلٍ، لا وسواس فيه ولا تشويش، ليل الاضطجاع في السكينة.

 

آمن ياسر جرادي بقدرة الفنّ على خلق فضاء لإنتاج الوعي الاجتماعي وتثويره ومنحه طاقة رفض جديدة، لكنه رحل دون أن يتمكن من كتابة أغنية تصف ألمه النّاجم عن الكارثة البيئية التي حلت بمسقط رأسه “قابس”، منذ فتح المصنع الكيميائي في السبعينات، وقضى على عائلات كثيرة من بينها والداه وعلى عدد من أقاربه، يقول “اللاجئ البيئي” كما كان يصف نفسه “منذ ثماني أو تسع سنوات وأنا أكتب ثم أشطب ما كتبته، وأقول في نفسي إن ما عشته أقسى بكثير”

 

أستحضر أشياءَ كثيرةً في رحيل ياسر، استحضر كلمات “توني موريسون” في تأبين نينا سيمون «لقد أنقذت نينا سيمون حياتنا» أو رثاء أوردي كومبس لصديقه جيمس بالدوين «لأنه كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنّا نعرف أنه سيظلّ عالماً عدائياً ومتعالياً». وأستحضر قول الكِندي في أبي تمّام “إن هذا الرجل لن يعيش طويلًا؛ لأنه ينحت من قلبه”، كما أستحضر قولة للحلاّج آمن بها ياسر كثيرا “النّاس موتى وأهل الحبّ أحياءُ”.